Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 116-120)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن إظهار عزته مع خواصه وصفوته بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 116 ] ، إشارة أن الحكمة في الخطاب مع عيسى عليه السلام بقوله تعالى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله مع علمه بأنه لم يقل من وجوه : أولها : لأن يستخرج منه قوله { قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] ، وذلك المعنيين أحدهما ليعلم أمته والناس أجمعون أن حضرة جلالته ، وشدة كماله أعظم وأعلى من أن يكون معه إله غيره . والثاني : ليعلموا أن ليس لعيسى عليه السلام ولا أمه ولأحد من خلقه مرتبة الألوهية ولهذا قال : { مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116 ] ؛ يعني : ليس لي استحقاق الإلهية ولكن كان حقيقة مع الأمة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلم الكفار يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم فكلم عيسى عليه السلام بدلاً عنهم وكان الكلام حقيقة معهم . والوجه الثالث : أنه تعالى نفى بهذا القول عن عيسى عليه السلام تهمة هذا المقام ؛ لأنه ذكره بألف الاستفهام { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } والإثبات بعد الاستفهام نفي كما أن النفي بعد الاستفهام إثبات ؛ كقوله تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] ؛ أي : أنا ربكم ونظيره في النفي والإثبات كقوله تعالى : { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } [ النمل : 60 ] ؛ أي : ليس مع الله إله فمعناه قلت أنت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، ولكنهم بجهلهم قد بالغوا في تعظيمك حتى طردك وجاوزا حدك في المدح ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم " . والوجه الرابع : قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } يشير به إلى القول بأمر التكوين كقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، أانت خلقت فيهم اتخاذك وأمك بالإلهية أم أنا خلقت فيهم خذلانا ؛ لعلمي بحالهم إنهم يستحقون لهذا الخذلان نظيره قوله تعالى : { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 64 ] ، وقوله { ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [ الواقعة : 59 ] ، وهذا نفي الفعل التكوين عن المخلوقين وإثباته لرب العالمين ، كقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } [ فاطر : 3 ] ، قال عيسى عليه السلام تعظيماً لله تعالى : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أن أقول هذا القول للتكوين { إِن كُنتُ قُلْتُهُ } [ المائدة : 116 ] ؛ أي : هذا القول { فَقَدْ عَلِمْتَهُ } [ المائدة : 116 ] ؛ لأني لا أقدر على هذا القول إلا بإذن توجده في وتكونه بقولك كن { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } [ المائدة : 116 ] ، أوجدته وكونته وما ستوحده فيها { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] ، من صفاتك القديمة بالذات كما هي ، وتعلم ما في نفسي من العجز والضعف والحاجة ، ولا أعلم ما في نفسك من كمال القدرة والقوة والغنا { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [ المائدة : 116 ] ، وهي نوعين : الغيب ، وغيب الغيب ؛ فالغيب ما غاب عن الخلق ولم يحتمل لهم أن يعلموه فهو حقيقة الذات وكمالية الصفات { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ النمل : 65 ] ، يشير إلى غيب الغيب ؛ لأن ما سواه يعلمونه بإعلام الله إياهم . ثم قال : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } [ المائدة : 117 ] ؛ أي : بأمر التكوين خلقت في حتى قلت لهم : { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 117 ] ؛ يعني : لما أقررت بربوبيتك وعبودية نفسي كيف أقول لهم اتخذوني وأمي إلهين من دون الله { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] ؛ أي : كنت شاهداً على إقرارهم بوحدانيتك { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 117 ] ؛ أي : كنت القادر على أن تحفظهم على التوحيد ؛ إذ كنت رقيباً والرقيب هو الحافظ ، وكنت عليهم شهيداً وليس للشهيد إلا الحضور والشهادة { وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] ؛ يعني : كما كنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم كنت أيضاً عليهم شهيداً ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم والشهيد وما كنت شهيداً ولا رقيباً . وكان لك القدرة على محافظتهم على التوحيد وكنت عاجزاً عن محافظتهم في الحياة والوفاة { إِن تُعَذِّبْهُمْ } [ المائدة : 118 ] ، بسبب التوحيد عنهم وإيجاد الشرك فيهم { فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ؛ يعني : إني اشهد لهم إنهم عبدوك يوماً ما لأني شهيد ليس علي إلا الشهادة كما قال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] ، { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } [ المائدة : 118 ] ، بأنهم عبدوك يوماً ، وما كان لهم الخيرة أن تسلب عنهم التوحيد { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ } [ المائدة : 118 ] ، تعز بعزتك من تشاء ليس لأحد أن يعترض على ما تشاء ويمنعك عما تشاء { ٱلْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] ، في كل حال أن تعذبهم فلا يخلو على حكمة وإن تغفر لهم فلا يخلو عن حكمة . ثم أخبر عن صدق قول عيسى عليه السلام ونفع صدقه بقوله تعالى : { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] ، إلى آخر السورة ، والإشارة فيها أن الله تعالى إنما خص يوم القيامة بنفع الصادقين ؛ لأن الصدق يحتمل في الدنيا النفع والضر للصادق مثل أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر من صدقه ؛ فتصيبه منه مضرة في نفسه وماله أو جاهه ، ولعله ينال من ثمرة الصدق قبولاً وجاهاً ومالاً وملكاً يشغله عن الله تعالى فيضره وربما يكون الصادق صدق في طلب الحق في الدنيا ، ثم يضر عنه ولم يبق له ذلك الصدق ، فأشار بقوله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم إلى الذين ماتوا على الصدق ووردوا القيامة مع صدقهم . ثم أخبر عن نفع صدقهم بقوله تعالى : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [ المائدة : 119 ] ، وهذا الجزاء للصادقين فوز كبير كقوله تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] ، فهو قوله تعالى : { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] ؛ أي : رضا الله عن الصادقين إذا ثبتوا على قدم الصدق في طلب الحق بعلو الهمة ، وتقربوا إلى الله تعالى بأداء الفرائض ، والإقدام على النوافل في اتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى أحبهم الله ، فكان له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً ومؤيداً به يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون ، فرضوا عنه به وفنوا عن وجودهم المجازي وإبقائهم بوجوده الحقيقي ، وهذا هو الحكمة في إيجاد العالم بما فيه ؛ ليكون هؤلاء السادة ثمار شجرة ويفوزوا بظهور الكنز المخفي الذي خلق الخلق لمعرفته ، كما قاله تعالى : " كنت كنزاً مخفياً … الحديث " { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [ المائدة : 119 ] ، والله أعلم . ثم أخبر عن فناء وجودهم المجازي بقوله تعالى : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ } [ المائدة : 120 ] ، كما أخبر عنه بعد فناء العالم بمن فيه بقوله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] ، فلما لم يكن موجود يجيبه سوى وجوده الحقيقي الأزلي الأبدي ، فأجاب نفسه فقال : { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، ثم قال تعالى : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] ؛ يعني : على كل شيء قدير في الأزل من الإنسان وفوزه بظهور الكنز المخفي بأن خلق العالم وما فيه ؛ لأجله كان قادراً فخلقه كما أراد وإثمه على ما أراد كيف أراد والله ولي التوفيق .