Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 59-63)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن مفاتيح الغيبة وأنها عنده بلا ريب بقوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] ، الإشارة فيها أن الله تعالى جعل لكل شيء شهادة تناسب ذلك الشيء وغيباً مناسب له ، وجعل لمغيب كل شيء مفتاحاً يفتح به باب غيب ذلك على شهادته فيفصل ذلك الشيء كما أراد الله في الأزل وقدره ، وعنده مفتاح الغيب : { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ؛ لأنه لا خالق إلا هو وليس لنبي ولا لولي مدخل في هذه المفاتيح ولا في استعمالها ؛ لأنه مختص بالخالق فحسب ما ضرب لك مثلاً يدركه به هذه الحقيقة ، وذلك مثل نقاش الصور ، فإن لكل صورة فيما ينقشها شهادة وهي هيئتها ، وغيب هو علم التصوير ، ومفتاح يفتح به باب علم التصوير على هيئة الصورة لتنفعل الصورة ثابتة في ذهن النقاش ، وهو العلم بيد النقاش لا مدخل لتصرف غيره فيه ، فإن الله تعالى هو النقاش المصور والصور هي صورة المكونات المختلفة الغيبية والشهادية ، وشهادة كل صورة منها خلقها وكونها وغيبها علم خلقها وتكوينها ، وقلم تصويرها الذي هو مفتاح ويفتح به باب علم تكوينها على صورتها وكونها هو الملكوت فبقلم ملكوت كل شيء يكون كل شيء ، وقلم الملكوت بيد الله سبحانه وتعالى ، كما قال تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 83 ] ، فكما أن الشهاديات مختلفة فالملكوتيات مختلفات ، ولكل شيء من الجماد والنبات والحيوان والإنسان والملك غيب مناسب لصورته ، ولهذا جمع المفاتح ووحد الغيب ، وقال { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } هو علم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة كما في الصور ، فافهم جيداً . { وَ } بعلم التكوين { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الأنعام : 59 ] ؛ لأن به كون البر وهو عالم الشهادة ، والبحر وهو عالم الغيب والملكوت يدل على هذا المعنى ، قوله عالم الغيب والشهادة وبهذا العلم { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأنه مكونها ومثبتها وسقطها { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 59 ] ، أرض القلب وظلمات صفات البشرية إلا وهو يركبها ويعلم كمالها ونقصانها { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } [ الأنعام : 59 ] ، الرطب المؤمن واليابس الكافر . وأيضاً : الرطب العالم واليابس الجاهل . وأيضاً : الرطب العارف واليابس الزاهد ، . وأيضاً : الرطب أهل المحبة واليابس أهل السلوة . وأيضاً : الرطب صاحب الشهود واليابس صاحب الوجود . وأيضاً : الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنفسه { إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وهو أم الكتاب . ثم أخبر عن فعله وفضله بقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ } [ الأنعام : 60 ] ، الآيتين الإشارة فيهما أن من فضل الله والرضا مع عباده أن يتولى مصالحهم بنفسه ليلاً ونهاراً ، فقال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] ، وهذا تعريف نفسه بنفسه ؛ يعني : فإن لم تعرفوني فأنا الذي يتوفاكم بالليل لاستراحة نفوسكم وتقوية قوتكم وسلامة حواسكم من الكلالة والطبيعة من الملالة ، ويريكم في المنام ما تكسبون بالنهار ، وهذا من الجنس الذي لا يعلمها إلا الله ، كما قال تعالى : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ } [ لقمان : 34 ] ، فيريكموه الله من فضله معكم ، ولتعلموا أنه يعلم بالليل ما تكسبون غداً بالنهار ، وهل بعد الغد سنين كثيرة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } [ الأنعام : 60 ] ، عن نوم الغفلة ، فإن أكثر انتباه الخلق ورجوعهم إلى الحق وحرصهم على طلب الدين وترك الدنيا إنما يكون بالرؤيا الصالحة ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " . وقال : " ما بقي من النبوة إلا المبشرات يراها المؤمن أو ترى له " فعلى هذا المعنى الهاء في قوله تعالى : فيه كناية عن المنام بالليل { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } [ الأنعام : 60 ] ؛ يعني : بعد الانتباه والحرص على الطلب يقضي أجل أيام الفراق المسمى بينكم وبينه { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } [ الأنعام : 60 ] ، بجذبة إلى ربكم { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } [ الأنعام : 60 ] ، عند الوصال ونيل الوصال بنور الجمال { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 60 ] ؛ يعني : يتحقق لكم أن استعمال الشريعة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم كان السير إلى الله تعالى وصورة جذبات الحق ، فافهم جيداً . ثم أخبر عن قهره بالعدل لمن لم يكن قابلاً للفضل بقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 61 ] ، إلى قوله : { وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } [ الأنعام : 62 ] ، بالإشارة فيها أن القهر من وصف الجلال هو مشرب الأولياء ، فيعبر عنه بالقاهرية ، وما كان وصف الجبروت فهو مشرب الأعداء فيعبر عنه بالقهارية كقوله تعالى : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، وقال تعالى من وصف الجلال { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] ؛ أي : يقهر نفوس العابدين بخوف عقوبته ، ويقهر قلوب العارفين بسطوة شهود جماله ، ويقهر أرواح المحبين بكشف جلاله ، فالعابد بلا نفس لاستيلاء سلطان أفعاله والعارف بلا قلب لاستيلاء سلطان جماله والمحب بلا روح لاستيلاء جلاله عليه والواصل مستهلك في عين حقيقته ، فمتى أراد الحق تعالى تكميل عبد من عباده يرسل عليه حفظه من صفات قهره ، كما قال تعالى : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [ الأنعام : 61 ] ، حتى لو أراد نفسه الخروج عن قيد مجاهدتا قهرته سطوات العتاب ، فردته إلى بذل الجهد ومتى أراد قلبه فرجة من مطالبته القربة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة ، ولو أراد روحه استرواحاً من الحرمات قهرته بواردات التجلي فردته إلى بذل المبهجة ، كما قال تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [ الأنعام : 61 ] الموت يعني : الفناء عن أوصاف الوجود { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] ، صفات قهرنا { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] ، في إفناء الأوصاف فشتان بين عبد مقهوراً بأفعاله وبين عبد مقهور بجماله وجلاله { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 62 ] ، يعني : أهل الفناء يردون إلى بقاء الله وهم الباقون بالله { مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 62 ] ، أي قائمون { أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ } [ الأنعام : 62 ] ، فيما يتولى مصالح دينهم ودنياهم بلا هم { وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } [ الأنعام : 62 ] ، فيما يحاسب أمور عباده محاسبة لا تكون في حسابهم وحسابهم . ثم أخبر عن إنجاء الأولياء بقوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الأنعام : 63 ] ، إلى قوله وسوف تعلمون الإشارة فيها أن البر والأجسام والبحر والأرواح فالأرواح ، وإن كانت نورانية إلى الأجسام ولكن بالنسبة إلى الحق تعالى ، ونور الإلهية ظلمانية ، كما قال : " إن الله هو الحق خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره " فمعناه إذ خلقتكم في ظلمة الخلقية ، فمن ينجيكم من ظلمات بر البشرية وظلمات بحر الروحانية { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً } [ الأنعام : 63 ] ، أي بالجسم { وَخُفْيَةً } [ الأنعام : 63 ] ، أي بالروح { لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ } [ الأنعام : 63 ] ، الظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 63 ] ، على نعمة النجاة فلما لم يكن أحد نجيهم من الظلمات غير الله .