Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 1-5)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } [ الأنفال : 1 ] إلى قوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 4 ] يشير إلى أن كثرة السؤال توجب الهلاك ، ولهذا " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " ، فلما أكثروا السؤال ، قال صلى الله عليه وسلم : " ذروني ما تركتكم ، فإنه أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " ومن كثرة سؤالهم قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } وإنما سألوه لتكون الأنفال لهم فقال على خلاف ما تمنوا . { قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ الأنفال : 1 ] يعملا فيها ما شاءا لا كما شئتم ؛ لتتأدبوا ولا تعترضوا على الله والرسول بطريق السؤال ، وتكونوا مستسلمين لأحكامهما في دينكم ودنياكم ، ولا تحرصوا على الدنيا ؛ لئلا تشوبوا أعمالكم الدينية بالأعراض الدنيوية { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 ] أي اتقوا بالله عن غير الله وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الرديئة والهمم الدنيئة ، وهي الحرص على الدنيا والحسد على الإخوان وغيرهما من الصفات الذميمة التي يحجب بها نور الإيمان عن القلوب { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأنفال : 1 ] بالتسليم لأحكامهما والائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نواهيهما { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] تحقيقاً لا تقليداً ، فإن المؤمن الحقيقي هو الذي كتب الله بقلم العناية في قلبه الإيمان وأيده بروح منه فهو على نور من ربه . كما وصفه الله تعالى بقوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] فإن دخل القلوب عند سماع ذكر الله من خصوصيته النور المنبسط فيه ؛ لأنه من شأن نور الإيمان أن ينقي القلب ويصفيه عن كدورات صفات النفس وظلمتها ، ويلين قسوته فيلين إلى ذكر الله فيجد شوقاً إلى الله ، وهذا حال أهل البدايات ، وأمَّا أهل النهايات الطمأنينة والسكون بالذكر ؛ لقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : " أحب القلوب إلى الله أصلبها في دين الله ، وأصفاها عن الذنوب ، وأرقها على الإخوان " ، ولمَّا جاء قوم حديثو العهد بالإسلام فسمعوا القرآن كانوا يبكون ويتأوهون ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : هكذا كنا في بداية الإسلام ، ثم قست قلوبنا . { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [ الأنفال : 2 ] فجعل من شرط الإيمان الحاصل في القلوب : ازدياده عند سماع القرآن وتلاوته ، وذكر الله وطاعته وعبادته ؛ وذلك لأن الإيمان الحقيقي هو النور الواقع في القلوب بعد انفتاح روزنة القلوب من أنوار تجلي شموس صفات مالك يوم الدين للقلوب المشتاقة ، فتكون وجوه القلوب النافرة من دنس حب الدنيا بذلك النور إلى ربها وحبيبها ناظرة ، فلمَّا تليت على أصحابها الآيات ، أو تلوها ، أو ذكروا بالله ، أو ذكروه ، أو عملوا عملاً صالحاً زاد انفتاح روزنتها بقدر صدقها وشوقها ، فيزيد فيها نور الإيمان فيزدادون إيماناً مع إيمانهم . { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] يعني : فحينئذ على ربهم يتوكلون لا على الدنيا وأهلها ، فإن من شاهد بنور الإيمان جمال الحق وجلاله ، فقد استغرق في بحر لجي من شهود الحق بحيث لا مستغرق لغيره ، ويرى الأشياء مضمحلة تحت سطوات جلاله فيكون توكله عليه لا على غيره . ومن صفاتهم أنهم { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } [ الأنفال : 3 ] أي : يديمونها بملازمة العبودية ظاهراً وباطناً ، ولا يشتغلون بطلب الدنيا وإن كانت حاجتهم ، قائمة بها لإدامة الصلاة ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ الأنفال : 3 ] أي : ومما أعطيناهم من غير طلبهم يصرفون في مصالح الدين وحراثة الآخرة وتقرباً إلى الله تعالى ، { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] لاستكمال شرائط الإيمان فيهم بالتحقيق لا بالتقليد ، ووقوع نور الحق في قلوبهم ، وتهون ظلمة الباطل عنها ، { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الأنفال : 4 ] على قدر استعلاء ذلك النور وتمكنهم في مقام العندية ، { وَمَغْفِرَةٌ } [ الأنفال : 4 ] أي : عطف من عواطفه يستر بنوره ظلمة وجودهم ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 4 ] أي : عطاء كريم يناسب كرمه . ثم أخبر عن تحقيق هذا لنبيه بقوله تعالى : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ } [ الأنفال : 5 ] إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] الإشارة فيها أنه تعالى أخرج المؤمنين الذين هم المؤمنون حقاً عن أوطان البشرية إلى مقام العندية بجذبات العناية ، { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [ الأنفال : 5 ] أي : من وطن وجودك { بِٱلْحَقِّ } أي : بمجيء الحق من تجلي صفات جماله وجلاله . { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 5 ] أي : القلب والروح ، { لَكَارِهُونَ } [ الأنفال : 5 ] يعني : للفناء من التجلي ، فإن البقاء محبوب والفناء مكروه على كل ذي جود .