Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 110-111)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى : أنه يرسل الرسل الكرام ، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام ، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق ، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل . حتى إن الرسل - على كمال يقينهم ، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده - ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس ، ونوع من ضعف العلم والتصديق ، فإذا بلغ الأمر هذه الحال { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } وهم الرسل وأتباعهم ، { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي : ولا يرد عذابنا ، عمن اجترم ، وتجرأ على الله { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } أي : قصص الأنبياء والرسل مع قومهم ، { عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي : يعتبرون بها ، أهل الخير وأهل الشر ، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة ، ويعتبرون بها أيضاً ، ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة ، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له . وقوله : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ } أي : ما كان هذا القرآن الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص من الأحاديث المفتراة المختلقة ، { وَلَـٰكِن } كان { تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب السابقة ، يوافقها ويشهد لها بالصحة ، { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه ، ومن الأدلة والبراهين . { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإنهم - بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره - يحصل لهم الهدى ، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة . فصل في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] وقال { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } [ يوسف : 7 ] وقال في آخرها { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد . فمن ذلك ، أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها ، لما فيها من أنواع التنقلات ، من حال إلى حال ، ومن محنة إلى محنة ، ومن محنة إلى منحة ومِنَّةٍ ، ومن ذلّ إلى عز ، ومن رقٍّ إلى ملك ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف ، ومن حزن إلى سرور ، ومن رخاء إلى جدب ، ومن جدب إلى رخاء ، ومن ضيق إلى سعة ، ومن إنكار إلى إقرار ، فتبارك من قصَّها فأحسنها ، ووضحها وبيَّنها . ومنها : أن فيها أصلاً لتعبير الرؤيا ، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده ، وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة ، فإن رؤيا يوسف التي رأى أن الشمس والقمر ، وأحد عشر كوكباً له ساجدين ، وجه المناسبة فيها : أن هذه الأنوار هي زينة السماء وجمالها ، وبها منافعها ، فكذلك الأنبياء والعلماء ، زينة للأرض وجمال ، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بهذه الأنوار ، ولأن الأصل أبوه وأمه ، وإخوته هم الفرع ، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نوراً وجرماً ، لما هو فرع عنه . فلذلك كانت الشمس أمه ، والقمر أباه ، والكواكب إخوته . ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث ، فلذلك كانت أمه ، والقمر والكواكب مذكرات ، فكانت لأبيه وإخوته ، ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له ، والمسجود [ له ] معظم محترم ، فلذلك دلّ ذلك على أن يوسف يكون معظماً محترماً عند أبويه وإخوته . ومن لازم ذلك أن يكون مجتبى مفضلاً في العلم والفضائل الموجبة لذلك ، ولذلك قال له أبوه : { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [ يوسف : 6 ] ومن المناسبة في رؤيا الفتيين ، أنه أول رؤيا ، الذي رأى أنه يعصر خمراً ، أن الذي يعصر في العادة ، يكون خادماً لغيره ، والعصر يقصد لغيره ، فلذلك أوَّله بما يؤول إليه ، أنه يسقي ربه ، وذلك متضمن لخروجه من السجن . وأوَّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ، بأن جلدة رأسه ولحمه ، وما في ذلك من المخ ، أنه هو الذي يحمله ، وأنه سيبرز للطيور ، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه ، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه ، وذلك لا يكون إلا بالصلب بعد القتل . وأوَّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلات ، بالسنين المخصبة ، والسنين المجدبة ، ووجه المناسبة أن الملك ، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها ، وبصلاحه تصلح ، وبفساده تفسد ، وكذلك السنون بها صلاح أحوال الرعية ، واستقامة أمر المعاش أو عدمه . وأما البقر فإنها تحرث الأرض عليها ، ويستقى عليها الماء ، وإذا أخصبت السنة سمنت ، وإذا أجدبت صارت عجافاً ، وكذلك السنابل في الخصب ، تكثر وتخضر ، وفي الجدب تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض . ومنها : ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة ، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحداً . يراه قومه بين أظهرهم صباحاً ومساءً ، وهو أُمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ ، وهي موافقة ، لما في الكتب السابقة ، وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون . ومنها : أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر ، وكتمان ما تخشى مضرته ، لقول يعقوب ليوسف { يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } [ يوسف : 5 ] ومنها : أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله : { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } . ومنها : أن نعمة الله على العبد ، نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه ، وأنه ربما شملتهم ، وحصل لهم ما حصل له بسببه ، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ } [ يوسف : 6 ] ولما تمت النعمة على يوسف ، حصل لآل يعقوب من العز والتمكين في الأرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب يوسف . ومنها : أن العدل مطلوب في كل الأمور ، لا في معاملة السلطان رعيته ولا فيما دونه ، حتى في معاملة الوالد لأولاده ، في المحبة والإيثار وغيره ، وأن في الإخلال بذلك يختل عليه الأمر ، وتفسد الأحوال ، ولهذا ، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته ، جرى منهم ما جرى على أنفسهم ، وعلى أبيهم وأخيهم . ومنها : الحذر من شؤم الذنوب ، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوباً متعددة ، ولا يتم لفاعله إلا بعدة جرائم ، فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه ، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل ، وكذبوا عدة مرات ، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه ، وفي إتيانهم عشاء يبكون ، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة ، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف ، وكلما صار البحث ، حصل من الإخبار بالكذب ، والافتراء ما حصل ، وهذا شؤم الذنب ، وآثاره التابعة والسابقة واللاحقة . ومنها : أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية ، لا بنقص البداية ، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر ، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم ، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح ، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم ، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ، وإذا سمح العبد عن حقه ، فالله خير الراحمين . ولهذا - في أصح الأقوال - أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } [ النساء : 163 ] وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم ، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف ، أنه رآهم كواكب نيرة ، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء ، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة . ومنها : ما مَنَّ الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم ، ومكارم الأخلاق ، والدعوة إلى الله وإلى دينه ، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفواً بادرهم به ، وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به . ثم بِرُّهُ العظيم بأبويه ، وإحسانه لإخوته ، بل لعموم الخلق . ومنها : أن بعض الشر أهون من بعض ، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما ، فإن إخوة يوسف ، لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضاً ، وقال قائل منهم : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } [ يوسف : 10 ] كان قوله أحسن منهم وأخف ، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير . ومنها : أن الشيء إذا تداولته الأيدي وصار من جملة الأموال ، ولم يعلم أنه كان على غير وجه الشرع ، أنه لا إثم على من باشره ببيع أو شراء ، أو خدمة أو انتفاع أو استعمال ، فإن يوسف عليه السلام باعه إخوته بيعاً حراماً ، لا يجوز ، ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها ، وبقي عند سيده غلاماً رقيقاً ، وسماه الله شراءً ، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم . ومنها : الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة ، والحذر أيضاً من المحبة التي يخشى ضررها ، فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى ، بسبب توحّدها بيوسف ، وحبها الشديد له ، الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة ، ثم كذبت عليه ، فسجن بسببها مدة طويلة . ومنها : أن الهمَّ الذي همَّ به يوسف بالمرأة ، ثم تركه لله ، مما يُقرّبه إلى الله زلفى ، لأن الهمّ داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء ، وهو طبيعة لأغلب الخلق ، فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته ، غلبت محبة الله وخشيته داعي النفس والهوى . فكان ممن { خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النازعات : 40 ] ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، أحدهم : " رجل دعَتْه امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله " وإنما الهم الذي يلام عليه العبد ، الهم الذي يساكنه ، ويصير عزماً ، ربما اقترن به الفعل . ومنها : أن من دخل الإيمان قلبه ، وكان مخلصاً لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه ، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] على قراءة من قرأها بكسر اللام ، ومن قرأها بالفتح ، فإنه من إخلاص الله إياه ، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه ، فلما أخلص عمله لله أخلصه الله ، وخلصه من السوء والفحشاء . ومنها : أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلاً فيه فتنة وأسباب معصية ، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه ، ليتمكن من التخلص من المعصية ، لأن يوسف عليه السلام - لما راودته التي هو في بيتها - فر هارباً ، يطلب الباب ليتخلص من شرها ، ومنها : أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه ، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار ، فما يصلح للرجل فإنه للرجل ، وما يصلح للمرأة فهو لها ، إذا لم يكن بينة ، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة ، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر ، من هذا الباب ، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة ، وحكم بها في قد القميص ، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها . ومما يدل على هذه القاعدة ، أنه استدل بوجود الصُّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة ، من غير بينة شهادة ولا إقرار ، فعلى هذا إذا وجد المسروق ، في يد السارق ، خصوصاً إذا كان معروفاً بالسرقة ، فإنه يحكم عليه بالسرقة ، وهذا أبلغ من الشهادة ، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر ، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد حاملاً فإنه يقام بذلك الحد ، ما لم يقم مانع منه ، ولهذا سمى الله هذا الحاكم شاهداً فقال : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26 ] . ومنها : ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن ، . فإن جماله الظاهر ، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب ، وللنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن { مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] وأما جماله الباطن ، فهو العفة العظيمة عن المعصية ، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها ، وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته ، ولهذا قالت امرأة العزيز : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] وقالت بعد ذلك : { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [ يوسف : 51 ] وقالت النسوة : { حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ } [ يوسف : 51 ] . ومنها : أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية ، فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين - إما فعل معصية ، وإما عقوبة دنيوية - أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة ، ولهذا من علامات الإيمان ، أن يكره العبد أن يعود في الكفر ، بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار . ومنها : أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله ، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية ، ويتبرأ من حوله وقوته ، لقول يوسف عليه السلام : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ يوسف : 33 ] . ومنها : أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير ، وينهيانه عن الشر ، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس ، وإن كان معصية ضاراً لصاحبه . ومنها : أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء ، فعليه عبودية له في الشدة ، فـ " يوسف " عليه السلام لم يزل يدعو إلى الله ، فلما دخل السجن ، استمر على ذلك ، ودعا الفتيين إلى التوحيد ، ونهاهما عن الشرك ، ومن فطنته عليه السلام أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته ، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا له : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما ، فرآهما متشوفين لتعبيرها عنده - رأى ذلك فرصة فانتهزها ، فدعاهما إلى الله تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده ، وأقرب لحصول مطلوبه ، وبين لهما أولاً ، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم ، إيمانه وتوحيده ، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهذا دعاء لهما بالحال ، ثم دعاهما بالمقال ، وبين فساد الشرك وبرهن عليه ، وحقيقة التوحيد وبرهن عليه . ومنها : أنه يبدأ بالأهم فالأهم ، وأنه إذا سئل المفتي ، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته ، وحسن إرشاده وتعليمه ، فإن يوسف - لما سأله الفتيان عن الرؤيا - قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له . ومنها : أن من وقع في مكروه وشدة ، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه ، أو الإخبار بحاله ، وأن هذا لا يكون شكوى للمخلوق ، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض ، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] . ومنها : أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه وسيلة لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع ، وأن لا يمتنع من التعليم ، أو لا ينصح فيه ، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم ، فإن يوسف عليه السلام قد قال ، ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه ، فلم يذكره ونسي ، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى ، وجاءه سائلاً مستفتياً عن تلك الرؤيا ، فلم يعنفه يوسف ، ولا وبخه ، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جواباً تاماً من كل وجه . ومنها : أنه ينبغي للمسؤول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله ، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه ، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته ، وحسن إرشاده ، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك ، بل دلهم - مع ذلك - على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع ، وكثرة جبايته . ومنها : أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه ، وطلب البراءة لها ، بل يحمد على ذلك ، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، ومنها : فضيلة العلم ، علم الأحكام والشرع ، وعلم تعبير الرؤيا ، وعلم التدبير والتربية وأنه أفضل من الصورة الظاهرة ، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف ، فإن يوسف - بسبب جماله - حصلت له تلك المحنة والسجن ، وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الأرض ، فإن كل خير في الدنيا والآخرة من آثار العلم وموجباته . ومنها : أن علم التعبير من العلوم الشرعية ، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه ، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى ، لقوله للفتيين : { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [ يوسف : 41 ] وقال الملك : { أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } [ يوسف : 43 ] وقال الفتى ليوسف : { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ } [ يوسف : 46 ] الآيات ، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم . ومنها : أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل ، إذا كان في ذلك مصلحة ، ولم يقصد به العبد الرياء ، وسلم من الكذب ، لقول يوسف : { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ] وكذلك لا تذم الولاية ، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده ، وأنه لا بأس بطلبها ، إذا كان أعظم كفاءة من غيره ، وإنما الذي يذم ، إذا لم يكن فيه كفاية ، أو كان موجوداً غيره مثله ، أو أعلى منه ، أو لم يرد بها إقامة أمر الله ، فبهذه الأمور ، ينهى عن طلبها ، والتعرض لها . ومنها : أن الله واسع الجود والكرم ، يجود على عبده بخير الدنيا والآخرة ، وأن خير الآخرة له سببان : الإيمان والتقوى ، وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها ، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه ، ويشوقها لثواب الله ، ولا يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها ، وهي غير قادرة عليها ، بل يسليها بثواب الله الأخروي ، وفضله العظيم لقوله تعالى : { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يوسف : 57 ] . ومنها : أن جباية الأرزاق - إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم - لا بأس بها ، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات ، للاستعداد للسنين المجدبة ، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله ، بل يتوكل العبد على الله ، ويعمل بالأسباب التي تنفعه في دينه ودنياه . ومنها : حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الأرض ، حتى كثرت عندهم الغلات جداً حتى صار أهل الأقطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها ، لعلمهم بوفورها فيها ، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله . ومنها : مشروعية الضيافة ، وأنها من سنن المرسلين ، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته { أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّيۤ أُوفِي ٱلْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ } [ يوسف : 59 ] . ومنها : أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم ، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة ، ثم قال لهم بعد ما أتوه ، وزعموا أن الذئب أكله { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [ يوسف : 18 ] وقال لهم في الأخ الآخر : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] ثم لما احتبسه يوسف عنده ، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [ يوسف : 83 ] فهم في الأخيرة - وإن لم يكونوا مفرطين - فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال ، من غير إثم عليه ولا حرج . ومنها : أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره ، أو الرافعة لها بعد نزولها ، غير ممنوع ، بل جائز ، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر ، فإن الأسباب أيضاً من القضاء والقدر ، لأمر يعقوب حيث قال لبنيه : { يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } [ يوسف : 67 ] . ومنها : جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد ، وإنما الممنوع ، التحيل على إسقاط واجب ، أو فعل محرم . ومنها : أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره ، بأمر لا يحب أن يطلع عليه ، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب ، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه ، ثم استخرجها منه ، موهماً أنه سارق ، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته ، وقال بعد ذلك : { مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } [ يوسف : 79 ] ولم يقل " من سرق متاعنا " وكذلك لم يقل " إنا وجدنا متاعنا عنده " بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره ، وليس في ذلك محذور ، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر ، وأنه يبقى عند أخيه ، وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال . ومنها : أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه ، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به ، وتطمئن إليه النفس لقولهم : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف : 81 ] . ومنها : هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام ، حيث قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف ، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة ، ويحزنه ذلك أشد الحزن ، فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة ، لا تقصر عن خمس عشرة سنة ، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] ثم ازداد به الأمر شدة ، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف ، هذا وهو صابر لأمر الله ، محتسب الأجر من الله ، قد وعد من نفسه الصبر الجميل ، ولا شك أنه وفى بما وعد به ، ولا ينافي ذلك ، قوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } [ يوسف : 86 ] فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، وإنما الذي ينافيه ، الشكوى إلى المخلوقين . ومنها : أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً ، فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى أنهى ما يكون ، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر ، أذن الله حينئذ بالفرج ، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطراراً ، فتم بذلك الأجر وحصل السرور ، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء ، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم ، ويزداد - بذلك - إيمانهم ويقينهم وعرفانهم . ومنها : جواز إخبار الإنسان بما يجد ، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما ، على غير وجه التسخط ، لأن إخوة يوسف قالوا : { يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } [ يوسف : 88 ] ولم ينكر عليهم يوسف . ومنها : فضيلة التقوى والصبر ، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر ، وأن عاقبة أهلهما أحسن العواقب ، لقوله : { قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] . ومنها : أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال ، أن يعترف بنعمة الله عليه ، وأن لا يزال ذاكراً حاله الأولى ، ليحدث لذلك شكراً كلما ذكرها ، لقول يوسف عليه السلام : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ } [ يوسف : 100 ] . ومنها : لطف الله العظيم بيوسف ، حيث نقله في تلك الأحوال ، وأوصل إليه الشدائد والمحن ، ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات . ومنها : أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه ، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك ، ويسأل الله حسن الخاتمة ، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] . فهذا ما يسر الله من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة ، ولا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك . فنسأله تعالى علماً نافعاً وعملاً متقبلاً إنه جواد كريم .