Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 23-29)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها أعظم أجراً ، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعاً أو كارهاً ، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرماً في بيت العزيز ، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ، أن { رَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد ، ولا إحساس بشر . { وَ } زادت المصيبة ، بأن { غَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ } وصار المحل خالياً ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي : افعل الأمر المكروه وأقْبِلْ إليَّ ، ومع هذا فهو غريب ، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم . فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هماً تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة ، و { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ } أي : أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي . فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح ، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه . ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة ، ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب ليتخلص ، ويهرب من الفتنة ، فبادرت إليه ، وتعلقت بثوبه ، فشقت قميصه ، فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال ، ألفيا سيدها ، أي : زوجها لدى الباب ، فرأى أمراً شق عليه ، فبادرت إلى الكذب ، أن المراودة قد كانت من يوسف ، وقالت : { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا } ولم تقل " من فعل بأهلك سوءاً " تبرئة لها وتبرئة له أيضاً من الفعل . وإنما النزاع عند الإرادة والمراودة ، { إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : أو يعذب عذاباً أليماً . فبرأ نفسه مما رمته به ، وقال : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم يعلم أيهما . ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه ، قد يعلمها العباد وقد لا يعلمونها ، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما ، تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام ، فانبعث شاهدٌ من أهل بيتها ، يشهد بقرينة من وجدت معه ، فهو الصادق ، فقال : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها ، المراود لها المعالج ، وأنها أرادت أن تدفعه عنها ، فشقت قميصه من هذا الجانب . { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } لأن ذلك يدل على هروبه منها ، وأنها هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب ، { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } عرف بذلك صدق يوسف وبراءته ، وأنها هي الكاذبة . فقال لها سيدها : { قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } وهل أعظم من هذا الكيد ، الذي برأت به نفسها مما أرادت وفعلت ، ورمت به نبي الله يوسف عليه السلام ، ثم إن سيدها لما تحقق الأمر ، قال ليوسف : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } أي : اترك الكلام فيه وتناسه ولا تذكره لأحد ، طلباً للستر على أهله ، { وَٱسْتَغْفِرِي } أيتها المرأة { لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } فأمر يوسف بالإعراض ، وهي بالاستغفار والتوبة .