Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 1-6)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحمد لله هو الثناء عليه بصفاته ، التي هي كلها صفات كمال ، وبنعمه الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، وأجل نعمه على الإطلاق ، إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله ، محمد صلى الله عليه وسلم فحمد نفسه ، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم ، وإنزال الكتاب عليهم ، ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين ، على أنه الكامل من جميع الوجوه ، وهما نفي العوج عنه ، وإثبات أنه قيمٌ مستقيم ، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب ، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث ، وإثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجلّ الإخبارات ، وهي الأخبار ، التي تملأ القلوب معرفة وإيماناً وعقلاً ، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله ، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة ، وأن أوامره ونواهيه تزكي النفوس ، وتطهرها وتنميها وتكملها ، لاشتمالها على كمال العدل والقسط ، والإخلاص ، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له . وحقيق بكتاب موصوف بما ذكر ، أن يحمد الله نفسه على إنزاله ، وأن يتمدح إلى عباده به . وقوله { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } أي : لينذر بهذا القرآن الكريم ، عقابه الذي عنده ، أي : قدره وقضاه ، على من خالف أمره ، وهذا يشمل عقاب الدنيا وعقاب الآخرة ، وهذا أيضاً من نعمه ، أن خوف عباده ، وأنذرهم ما يضرهم ويهلكهم . كما قال تعالى - لما ذكر في هذا القرآن وصف النار - قال : { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } [ الزمر : 16 ] . فمن رحمته بعباده ، أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره ، وبينها لهم ، وبين لهم الأسباب الموصلة إليها . { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } أي : وأنزل الله على عبده الكتاب ، ليبشر المؤمنين به ، وبرسله ، وكتبه ، الذين كمل إيمانهم ، فأوجب لهم عمل الصالحات ، وهي الأعمال الصالحة ، من واجب ومستحب ، التي جمعت الإخلاص والمتابعة ، { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } وهو الثواب الذي رتّبه الله على الإيمان والعمل الصالح ، وأعظمه وأجله ، الفوز برضا الله ودخول الجنة ، التي فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وفي وصفه بالحسن ، دلالة على أنه لا مكدر فيه ولا منغص بوجه من الوجوه ، إذ لو وجد فيه شيء من ذلك ، لم يكن حسنه تاماً . ومع ذلك فهذا الأجر الحسن { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } لا يزول عنهم ، ولا يزولون عنه ، بل نعيمهم في كل وقت متزايد ، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به ، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح ، موصل لما تستبشر به النفوس ، وتفرح به الأرواح . { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } من اليهود والنصارى والمشركين ، الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة ، فإنهم لم يقولوها عن علم و [ لا ] يقين ، لا علم منهم ، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم ، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها ، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه ، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية ، والكذب عليه ؟ ! ! { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [ الأنعام : 144 ] ولهذا قال هنا : { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } أي : كذباً محضاً ما فيه من الصدق شيء ، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج ، والانتقال من شيء إلى أبطل منه ، فأخبر أولاً : أنه { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } والقول على الله بلا علم ، لا شك في منعه وبطلانه ، ثم أخبر ثانياً ، أنه قول قبيح شنيع فقال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثاً مرتبته من القبح ، وهو الكذب المنافي للصدق . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الخلق ، ساعياً في ذلك أعظم السعي ، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين ، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين ، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ورحمة بهم ، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء ، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، كما قال في الآية الأخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] وقال { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } أي : مهلكها غماً وأسفاً عليهم ، وذلك أن أجرك قد وجب على الله ، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيراً لهداهم ، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار ، فلذلك خذلهم فلم يهتدوا ، فإشغالك نفسك غماً وأسفاً عليهم ، ليس فيه فائدة لك . وفي هذه الآية ونحوها عبرة ، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله ، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية ، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه ، مع التوكل على الله في ذلك ، فإن اهتدوا فَبِهَا ونِعْمَتْ ، وإلا فلا يحزن ولا يأسف ، فإن ذلك مُضْعِفٌ للنفس ، هادم للقوى ، ليس فيه فائدة ، بل يمضي على فعله الذي كُلِّفَ به وتوجه إليه ، وما عدا ذلك ، فهو خارج عن قدرته ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] وموسى عليه السلام يقول : { رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } الآية [ المائدة : 25 ] ، فمن عداهم ، من باب أولى وأحرى ، قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21 - 22 ] .