Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 60-82)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام ، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم ، أنه قال لفتاه - أي : خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره ، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك : - { لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أي : لا أزال مسافراً وإن طالت عليَّ الشقة ، ولحقتني المشقة ، حتى أصل إلى مجمع البحرين ، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبداً من عباد الله العالمين ، عنده من العلم ما ليس عندك ، { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أي : مسافة طويلة ، المعنى : أن الشوق والرغبة ، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة ، وهذا عزم منه جازم ، فلذلك أمضاه . { فَلَمَّا بَلَغَا } أي : هو وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان ، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فَثَمَّ ذلك العبد الذي قصدته ، فاتخذ ذلك الحوت سبيله ، أي : طريقه في البحر سرباً وهذا من الآيات . قال المفسرون : إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه ، لما وصلا إلى ذلك المكان ، أصابه بلل البحر ، فانسرب بإذن الله في البحر ، وصار مع حيواناته حياً . فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين ، قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } أي : لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط ، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا مس التعب فيه ، وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى على وجود مطلبه ، وأيضاً فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان ، سهل لهما الطريق ، فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعب ، فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة ، قال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ } أي : ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ } لأنه السبب في ذلك { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } أي : لما انسرب في البحر ودخل فيه ، كان ذلك من العجائب . قال المفسرون : كان ذلك المسلك للحوت سرباً ، ولموسى وفتاه عجباً ، فلما قال له الفتى هذا القول ، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت ، وجد الخضر ، فقال موسى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي : نطلب { فَٱرْتَدَّا } أي : رجعا { عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } أي رجعا يقصان أثرهما ، إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه ، وجدا عبداً من عبادنا ، وهو الخضر ، وكان عبداً صالحاً ، لا نبياً على الصحيح . آتيناه [ رحمة من عندنا أي : أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَلَّمْنَاهُ } ] { مِن لَّدُنَّا } [ أي : من عندنا ] عِلْماً ، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى ، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء ، وخصوصاً في العلوم الإيمانية والأصولية ، لأنه من أولي العزم من المرسلين ، الذين فضلهم الله على سائر الخلق ، بالعلم ، والعمل ، وغير ذلك ، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة ، والإخبار عن مطلبه : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } أي : هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله ، ما به أسترشد وأهتدي ، وأعرف به الحق في تلك القضايا ؟ وكان الخضر ، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة ، ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت ، حتى على موسى عليه السلام ، فقال الخضر لموسى : لا أمتنع من ذلك ، ولكنك { لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي : لا تقدر على اتباعي وملازمتي ، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر ، وباطنها غير ذلك ، ولهذا قال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } أي : كيف تصبر على أمر ، ما أحطت بباطنه وظاهره ، ولا علمت المقصود منه ومآله ؟ فقال موسى : { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } وهذا عزم منه ، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به ، والعزم شيء ، ووجود الصبر شيء آخر ، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر ، فحينئذ قال له الخضر : { فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي : لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار ، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله ، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به ، فنهاه عن سؤاله ، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر . { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا } أي : اقتلع الخضر منها لوحاً ، وكان له مقصود في ذلك سيبينه ، فلم يصبر موسى عليه السلام ، لأن ظاهره أنه منكر ، لأنه عيب للسفينة ، وسبب لغرق أهلها ، ولهذا قال موسى : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } أي : عظيماً شنيعاً ، وهذا من عدم صبره عليه السلام ، فقال له الخضر : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي : فوقع كما أخبرتك ، وكان هذا من موسى نسياناً فقال : { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أي : لا تعسر علي الأمر واسمح لي ، فإن ذلك وقع على وجه النسيان ، فلا تؤاخذني في أول مرة . فجمع بين الإقرار به والعذر منه ، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة على صاحبك ، فسمح عنه الخضر . { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً } أي : صغيراً { فَقَتَلَهُ } الخضر ، فاشتد بموسى الغضب ، وأخذته الحمية الدينية ، حين قتل غلاماً صغيراً لم يذنب ، { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } وأي : نكر مثل قتل الصغير ، الذي ليس عليه ذنب ، ولم يقتل أحداً ؟ ! وكانت الأولى من موسى نسياناً ، وهذه غير نسيان ، ولكن عدم صبر ، فقال له الخضر معاتباً ومذكراً : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } . فقال [ له ] موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ } بعد هذه المرة { فَلاَ تُصَٰحِبْنِي } أي : فأنت معذور بذلك ، وبترك صحبتي { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } أي : أعذرت مني ، ولم تقصر . { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } أي : استضافاهم ، فلم يضيفوهما { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي : قد عاب واستهدم { فَأَقَامَهُ } الخضر أي : بناه وأعاده جديداً . فقال له موسى : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : أهل هذه القرية ، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم ، وأنت تبنيه من دون أجرة ، وأنت تقدر عليها ؟ . فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال ، واستعذر الخضر منه ، فقال له : { هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } فإنك شرطت ذلك على نفسك ، فلم يبق الآن عذر ، ولا موضع للصحبة ، { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أي : سأخبرك بما أنكرت عليَّ ، وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب ، وما يؤول إليه الأمر . { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ } التي خرقتها { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ } يقتضي ذلك الرقة عليهم ، والرأفة بهم . { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أي : كان مرورهم على ذلك الملك الظالم ، فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلماً ، فأردت أن أخرقها ليكون فيها عيب ، فتسلم من ذلك الظالم . { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ } الذي قتلته { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغياناً وكفراً ، أي : لحملهما على الطغيان والكفر ، إما لأجل محبتهما إياه ، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك ، أي : فقتلته ، لاطلاعي على ذلك ، سلامة لدين أبويه المؤمنين ، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة ؟ ! ! وهو وإن كان فيه إساءة إليهما ، وقطع لذريتهما ، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية ما هو خير منه ، ولهذا قال : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي : ولداً صالحاً ، زكياً ، واصلاً لرحمه ، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان . { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ } الذي أقمته { فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } أي : حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ، لكونهما صغيرين عدما أباهما ، وحفظهما الله أيضاً بصلاح والدهما . { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } أي : فلهذا هدمت الجدار ، واستخرجت ما تحته من كنزهما ، وأعدته مجاناً . { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي : هذا الذي فعلته رحمة من الله ، آتاها الله عبده الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي : أتيت شيئاً من قبل نفسي ، ومجرد إرادتي ، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره . { ذَلِكَ } الذي فسرته لك { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } . وفي هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ، ننبه على بعضه بعون الله . فمنها فضيلة العلم ، والرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة ، ولقي النصب في طلبه ، وترك القعود عند بني إسرائيل ، لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك . ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك ، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل . ومنها : جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤنة ، وطلب الراحة ، كما فعل موسى . ومنها : أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه ، وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، وإظهاراً لشرف هذه العبادة الجليلة ، كما قال موسى : { لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } . وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه ، مع أن عادته التورية ، وذلك تبع للمصلحة . ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره ، لقول فتى موسى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ } . ومنها : جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ، من نصب أو جوع أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقاً ، لقول موسى : { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } . ومنها : استحباب كون خادم الإنسان ، ذكياً فطناً كيساً ، ليتم له أمره الذي يريده . ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعاً ، لأن ظاهر قوله : { آتِنَا غَدَآءَنَا } إضافة إلى الجميع ، أنه أكل هو وهو جميعاً . ومنها : أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله ، يعان ما لا يعان غيره لقوله : { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } والإشارة إلى السفر المجاوز ، لمجمع البحرين ، وأما الأول ، فلم يشتك منه التعب مع طوله ، لأنه هو السفر على الحقيقة . وأما الأخير ، فالظاهر أنه بعض يوم ، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة ، فالظاهر أنهم باتوا عندها ، ثم ساروا من الغد ، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا } فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده . ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ، ليس نبياً ، بل عبداً صالحاً ، لأنه وصفه بالعبودية ، وذكر مِنَّة الله عليه بالرحمة والعلم ، ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبياً ، لذكر ذلك كما ذكره غيره . وأما قوله في آخر القصة : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } فإنه لا يدل على أنه نبي ، وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما يكون لغير الأنبياء ، كما قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً } [ النحل : 68 ] . ومنها : أن العلم الذي يُعَلِّمُه الله [ لعباده ] نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمنّ عليه من عباده لقوله : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } . ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى عليه السلام : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه ، بل يدعي أنه يتعاون هو وإياه ، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جداً ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم . ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى - بلا شك - أفضل من الخضر . ومنها : تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ، ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة . فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه . فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث ، إذا كان قاصراً في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوه من العلوم ، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً . ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى ، والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } أي : مما علمك الله تعالى . ومنها : أن العلم النافع ، هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك ، فإما أن يكون ضاراً ، أو ليس فيه فائدة لقوله : { أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } . ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم ، فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر - يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه - إنه لا يصبر معه . ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علماً وخبرة بذلك الأمر ، الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فجعل الموجب لعدم صبره ، وعدم إحاطته خبراً بالأمر . ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود . ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " . ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل . ومنها : أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصراً ، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها ، أو لا يدركها ذهنه ، أو يسأل سؤالاً ، لا يتعلق في موضع البحث . ومنها : جواز ركوب البحر ، في غير الحالة التي يخاف منها . ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } . ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم ، العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم ويرهقهم ، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر . ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها ، فإن موسى عليه السلام أنكر على الخضر خرقه السفينة ، وقتل الغلام ، وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر ، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها ، في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل عليه السلام وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض ، الذي يوجب عليه الصبر ، وعدم المبادرة إلى الإنكار . ومنها : القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه : " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه ، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته ، وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر ، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا . ومنها : القاعدة الكبيرة أيضاً وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره ، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ، أنه يجوز ، ولو بلا إذن ، حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق ، أو غرق ، أو نحوهما ، في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال ، أو هدم بعض الدار فيه سلامة للباقي جاز للإنسان ، بل شرع له ذلك ، حفظاً لمال الغير ، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ، ولو من غير إذن . ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ } ولم ينكر عليهم عملهم . ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة . ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } . ومنها : أن القتل قصاصاً غير منكرٍ لقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ } . ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ، وفي ذريته . ومنها : أن خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، أنّ أباهما صالح . ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه ، بقوله : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } . وأما الخير ، فأضافه إلى الله تعالى ، لقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } كما قال إبراهيم عليه السلام : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] وقالت الجن : { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ] مع أن الكل بقضاء الله وقدره . ومنها : أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ، ويترك صحبته حتى يعتبه ، ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى . ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه ، في غير الأمور المحذورة ، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة . ومنها : أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح ، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته ، وأنه يقدر على العبد أموراً يكرهها جداً ، وهي صلاح دينه ، كما في قضية الغلام ، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة ، فأراهم نموذجاً من لطفه وكرمه ، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة .