Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 59-63)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء المخلصون المتبعون لمراضي ربهم ، المنيبون إليه ، ذكر من أتى بعدهم ، وبدَّلوا ما أُمرُوا به ، وأنه خلف من بعدهم خلف ، رجعوا إلى الخلف والوراء ، فأضاعوا الصلاة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها ، فتهاونوا بها وضيعوها ، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين ، التي هي آكد الأعمال ، وأفضل الخصال ، كانوا لما سواها من دينهم أضيع ، وله أرفض ، والسبب الداعي لذلك ، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها ، مقدمة لها على حقوق الله ، فنشأ من ذلك التضييع لحقوقه ، والإقبال على شهوات أنفسهم ، مهما لاحت لهم حصلوها ، وعلى أي : وجه اتفقت تناولوها . { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } أي : عذاباً مضاعفاً شديداً ، ثم استثنى تعالى فقال : { إِلاَّ مَن تَابَ } عن الشرك والبدع والمعاصي ، فأقلع عنها وندم عليها ، وعزم عزماً جازماً أن لا يعاودها ، { وَآمَنَ } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، { وَعَمِلَ صَالِحاً } وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله ، إذا قصد به وجهه ، { فَأُوْلَـٰئِكَ } الذي جمعوا بين التوبة والإيمان ، والعمل الصالح ، { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } المشتملة على النعيم المقيم ، والعيش السليم ، وجوار الرب الكريم ، { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } من أعمالهم ، بل يجدونها كاملة ، موفرة أجورها ، مضاعفاً عددها . ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخولها ، ليست كسائر الجنات ، وإنما هي جنات عدن ، أي : جنات إقامة ، لا ظعن فيها ، ولا حِوَلَ ولا زوال ، وذلك لسعتها ، وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور ، والبهجة والحبور . { ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ } أي : التي وعدها الرحمن ، أضافها إلى اسمه { ٱلرَّحْمَـٰنُ } لأن فيها من الرحمة والإحسان ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب [ بشر ] . وسماها تعالى رحمته ، فقال : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ آل عمران : 107 ] . وأيضاً ففي إضافتها إلى رحمته ، ما يدل على استمرار سرورها ، وأنها باقية ببقاء رحمته ، التي هي أثرها وموجبها ، والعباد في هذه الآية ، المراد : عباد إلهيته ، الذين عبدوه ، والتزموا شرائعه ، فصارت العبودية وصفاً لهم كقوله : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [ الفرقان : 63 ] ونحوه ، بخلاف عباده المماليك فقط ، الذين لم يعبدوه ، فهؤلاء وإن كانوا عبيداً لربوبيته ، لأنه خلقهم ورزقهم ودبرهم ، فليسوا داخلين في عبيد إلهيته العبودية الاختيارية ، التي يمدح صاحبها ، وإنما عبوديتهم عبودية اضطرار ، لا مدح لهم فيها . وقوله : { بِٱلْغَيْبِ } يحتمل أن تكون متعلقة بـ { وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } فيكون المعنى على هذا ، أن الله وعدهم إياها وعداً غائباً ، لم يشاهدوه ولم يروه ، فآمنوا بها ، وصدقوا غيبها ، وسعوا لها سعيها ، مع أنهم لم يروها ، فكيف لو رأوها ، لكانوا أشد لها طلباً ، وأعظم فيها رغبة ، وأكثر لها سعياً ، ويكون في هذا ، مدح له بإيمانهم بالغيب ، الذي هو الإيمان النافع . ويحتمل أن تكون متعلقة بعباده ، أي : الذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه ، فهذه عبادتهم ولم يروه ، فلو رأوه ، لكانوا أشد له عبادة ، وأعظم إنابة ، وأكثر حباً ، وأجل شوقاً ، ويحتمل أيضاً ، أن المعنى : هذه الجنات التي وعدها الرحمن عباده ، من الأمور التي لا تدركها الأوصاف ، ولا يعلمها أحد إلا الله ، ففيه من التشويق لها ، والوصف المجمل ، ما يهيج النفوس ، ويزعج الساكن إلى طلبها ، فيكون هذا مثل قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] والمعاني كلها صحيحة ثابتة ، ولكن الاحتمال الأول أولى ، بدليل قوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } لا بد من وقوعه ، فإنه لا يخلف الميعاد ، وهو أصدق القائلين . { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي : كلاماً لاغياً لا فائدة فيه ، ولا ما يؤثم ، فلا يسمعون فيها شتماً ، ولا عيباً ، ولا قولاً فيه معصية لله ، أو قولاً مكدراً ، { إِلاَّ سَلاَماً } أي : إلاّ الأقوال السالمة من كل عيب ، من ذكر لله ، وتحية ، وكلام سرور ، وبشارة ، ومطارحة الأحاديث الحسنة بين الإخوان ، وسماع خطاب الرحمن ، والأصوات الشجية ، من الحور والملائكة والولدان ، والنغمات المطربة ، والألفاظ الرخيمة ، لأن الدار ، دار السلام ، فليس فيها إلا السلام التام في جميع الوجوه . { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي : أرزاقهم من المآكل والمشارب ، وأنواع اللذات ، مستمرة حيثما طلبوا ، وفي أي : وقت رغبوا ، ومن تمامها ولذاتها وحسنها ، أن تكون في أوقات معلومة . { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ليعظم وقعها ويتم نفعها ، فتلك الجنة التي وصفناها بما ذكر { لْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } أي : نورثها المتقين ، ونجعلها منزلهم الدائم ، الذي لا يظعنون عنه ، ولا يبغون عنه حِوَلاً ، كما قال تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] .