Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 124-125)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى عن عبده وخليله إبراهيم عليه السلام ، المتفق على إمامته وجلالته ، الذي كلٌّ من طوائف أهل الكتاب تدعيه ، بل وكذلك المشركون : أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات ، أي : بأوامر ونواهي ، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده ، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان ، من الصادق ، الذي ترتفع درجته ، ويزيد قدره ويزكو عمله ، ويخلص ذهبه ، وكان من أجلِّهم في هذا المقام الخليل عليه السلام . فأتمَّ ما ابتلاه الله به ، وأكمله ووفَّاه ، فشكر الله له ذلك ، ولم يزل الله شكوراً ، فقال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } أي : يقتدون بك في الهدى ، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية ، ويحصل لك الثناء الدائم والأجر الجزيل ، والتعظيم من كل أحد . وهذه - لَعَمْر الله - أفضل درجة تنافس فيها المتنافسون ، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون ، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم ، من كل صديق متبعٍ لهم ، داعٍ إلى الله وإلى سبيله . فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام وأدرك هذا ، طلب ذلك لذريته لتعلو درجته ودرجة ذريته ، وهذا أيضا من إمامته ونصحه لعباد الله ، ومحبته أن يُكثِّر فيهم المرشدون ، فلله عظمة هذه الهمم العالية والمقامات السامية . فأجابه الرحيم اللطيف ، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام ، فقال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } أي : لا ينال الإمامة في الدين من ظلم نفسه وضرها ، وحط قدرها ، لمنافاة الظلم لهذا المقام ، فإنه مقام آلته الصبر واليقين ، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة ، والأخلاق الجميلة ، والشمائل السديدة ، والمحبة التامة ، والخشية والإنابة ، فأين الظلم وهذا المقام ؟ ودلَّ مفهوم الآية أن غير الظالم سينال الإمامة ، ولكن مع إتيانه بأسبابها . ثم ذكر تعالى ، نموذجاً باقياً دالاً على إمامة إبراهيم ، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام ، حاطَّاً للذنوب والآثام . وفيه من آثار الخليل وذريته ، ما عرف به إمامته ، وتذكرت به حالته ، فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً } أي : مرجعاً يثوبون إليه ، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية ، يترددون إليه ولا يقضون منه وطراً ، { وَ } جعله { أَمْناً } يأمن به كل أحد ، حتى الوحش ، وحتى الجمادات كالأشجار . ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاده حرمة وتعظيماً وتشريفاً وتكريماً . { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك المقام المعروف الذي قد جعل الآن مقابل باب الكعبة ، وأن المراد بهذا ركعتا الطواف ، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ، وعليه جمهور المفسرين ، ويحتمل أن يكون المقام مفرداً مضافاً ، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج ، وهي المشاعر كلها : من الطواف والسعي ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، ورمي الجمار ، والنحر ، وغير ذلك من أفعال الحج . فيكون معنى قوله : { مُصَلًّى } أي : معبداً ، أي : اقتدوا به في شعائر الحج ، ولعل هذا المعنى أولى ، لدخول المعنى الأول فيه ، واحتمال اللفظ له . { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أوحينا إليهما ، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك ، والكفر والمعاصي ، ومن الرجس والنجاسات والأقذار ، ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } أي : المصلين ، قدم الطواف ، لاختصاصه بالمسجد [ الحرام ] ، ثم الاعتكاف لأن من شرطه المسجد مطلقا ، ثم الصلاة مع أنها أفضل ، لهذا المعنى . وأضاف الباري البيت إليه لفوائد ، منها : أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره ، لكونه بيت الله ، فيبذلان جهدهما ، ويستفرغان وسعهما في ذلك . ومنها : أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام ، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه . ومنها : أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه .