Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 1-5)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تقدم الكلام على البسملة . وأما الحروف المقطَّعة في أوائل السور ، فالأسلم فيها ، السكوت عن التعرض لمعناها [ من غير مستند شرعي ] مع الجزم بأن الله تعالى لم يُنزلها عبثاً بل لحكمة لا نعلمها . وقوله { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة ، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم ، والحق المبين ، فـ { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ولا شكَّ بوجهٍ من الوجوه ، ونفيُ الرَّيب عنه ، يستلزم ضده ، إذ ضدَّ الريب والشك اليقينُ ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشكُّ والرَّيب ، وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمناً لضده ، وهو الكمال ، لأن النفي عدم ، والعدم المحضُ لا مدح فيه . فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه ، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة ، وقال : { هُدًى } وحذف المعمول ، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ، ولا للشيء الفلاني ، لإرادة العموم ، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ، ومُبينٌ للحق من الباطل ، والصحيح من الضعيف ، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأُخراهم . وقال في موضع آخر : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] فعمَّم ، وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق ، فالأشقياء لم يرفعوا به رأساً ، ولم يقبلوا هدى الله ، فقامت عليهم به الحجة ، ولم ينتفعوا به لشقائهم ، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب النواهي ، فاهتدوا به ، وانتفعوا غاية الانتفاع ، قال تعالى : { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية . ولأن الهداية نوعان : هداية البيان ، وهداية التوفيق ، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان ، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق ، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية [ تامة ] . ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة ، لتضمن التقوى لذلك ، فقال : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } حقيقة الإيمان : هو التصديق التَّام بما أخبرت به الرسل ، المتضمن لانقياد الجوارح ، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس ، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر ، إنما الشأن في الإيمان بالغيب ، الذي لم نَره ولم نُشاهده ، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله ، فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلم من الكافر ، لأنه تصديق مجرد لله ورسله ، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله ، سواء شاهده أو لم يشاهده ، وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقلُه وفهمه ، بخلاف الزنادقة والمكذِّبين بالأمور الغيبية لأن عقولهم القاصرة المُقصِرة لم تهتدِ إليها ، فكذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ، ففسدت عقولهم ، ومَرَجتْ أحلامُهم ، وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله . ويدخل في الإيمان بالغيب [ الإيمان بـ ] جميعُ ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة ، وأحوال الآخرة ، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها ، [ وما أخبرت به الرسل من ذلك ] فيؤمنون بصفات الله ووجودها ، ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها . ثم قال : { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } لم يقل : يفعلون الصلاة ، أو يأتون بالصلاة ، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة ، فإقامة الصلاة ، إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها ، وإقامتها باطناً بإقامة روحها ، وهو حضور القلب فيها ، وتدبر ما يقوله ويفعله منها ، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] وهي التي يترتَّب عليها الثواب ، فلا ثواب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها ، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها . ثم قال : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ، والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير ، ولم يذكر المنفق عليه ، لكثرة أسبابه وتنوع أهله ، ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله ، وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض ، لينبههم أنه لم يُرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم ، غير ضارٍ لهم ولا مُثقل ، بل ينتفعون هم بإنفاقه ، وينتفع به إخوانهم . وفي قوله : { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ، ليست حاصلة بقوتكم وملككم ، وإنما هي رزق الله الذي خوَّلكم ، وأنعم به عليكم ، فكما أنعم عليكم وفضَّلكم على كثير من عباده ، فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم ، وواسوا إخوانكم المُعدِمِين . وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن ، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود ، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده ، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود ، وسعيه في نفع الخلق ، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه ، فلا إخلاص ولا إحسان . ثم قال : { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة ، قال تعالى : { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ، فيؤمنون ببعضه ، ولا يؤمنون ببعضه ، إما بجحده أو تأويله على غير مراد الله ورسوله ، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم ، بما حاصله عدم التصديق بمعناها ، وإن صدقوا بلفظها ، فلم يؤمنوا بها إيماناً حقيقياً . وقوله : { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب السابقة ، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه ، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور ، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية ، وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم . ثم قال : { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ، و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت ، وخصَّه [ بالذكر ] بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان ولأنه أعظم باعث على الرَّغبة والرهبة والعمل ، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، الموجب للعمل . { أُوْلَـٰئِكَ } أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي : على هدى عظيم ، لأن التنكير للتعظيم ، وأيُّ هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة ، وهل الهداية [ الحقيقية ] إلا هدايتهم ، وما سواها [ مما خالفها ] ، فهو ضلالة . وأتى بـ " على " في هذا الموضع ، الدَّالة على الاستعلاء ، وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى ، مرتفع به ، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر . ثم قال : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } والفلاح [ هو ] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب ، حصَرَ الفلاح فيهم لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم ، وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك ، فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقاً ، ذكر صفات الكفَّار المُظهرين لكفرهم ، المعاندين للرسول ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ … } .