Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 105-113)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخبر تعالى ، أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق ، أي : محفوظاً في إنزاله من الشياطين ، أن يتطرق إليه منهم باطل بل نزل بالحق ، ومشتملاً أيضاً على الحق فأخباره صدق ، وأوامره ونواهيه عدل { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس . وفي الآية الأخرى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] . فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس ، في مسائل النزاع والاختلاف ، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه ، ويحتمل أن الآيتين كليهما ، معناهما واحد ، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد ، وفي جميع مسائل الأحكام . وقوله : { بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } أي : لا بهواك ، بل بما علّمك الله وألهمك ، كقوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] . وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها ، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل ، لقوله : { بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } ولم يقل : بما رأيت . ورتب أيضاً الحكم بين الناس على معرفة الكتاب ، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط ، نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل ، فقال : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } أي : لا تخاصم عن مَنْ عرفت خيانته ، من مدع ما ليس له ، أو منكرٍ حقاً عليه ، سواء علم ذلك أو ظنه . ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل ، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية . ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم . { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } مما صدر منك ، إن صدر . { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : يغفر الذنب العظيم لمن استغفره وتاب إليه وأناب ، ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك ، الموجِب لثوابه وزوال عقابه . { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } . " الاختيان " و " الخيانة " بمعنى الجناية والظلم والإثم ، وهذا يشمل النهي عن المجادلة ، عن مَنْ أذنب وتوجه عليه عقوبة ، من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة ، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية . { أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } أي : كثير الخيانة والإثم ، وإذا انتفى الحب ثبت ضده ، وهو البُغْض ، وهذا كالتعليل ، للنهي المتقدم . ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ } وهذا من ضعف الإيمان ، ونقصان اليقين ، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله ، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس ، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم ، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم . وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم ، خصوصاً في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول ، من تبرئة الجاني ، ورمي البريء بالجناية ، والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، ليفعل ما بيتوه . فقد جمعوا بين عدة جنايات ، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات ، المطلع على سرائرهم وضمائرهم ، ولهذا توعدهم تعالى بقوله : { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } أي : قد أحاط بذلك علماً ، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم ، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم ، الموجب للعقوبة البليغة . { هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي : هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا ، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق ، فماذا يغني عنهم وينفعهم ؟ ومَنْ يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ؟ { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ } [ النور : 25 ] . فمَنْ يجادل عنهم ، مَنْ يعلم السر وأخفى ، ومَنْ أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار ؟ وفي هذه الآية إرشاد إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه ، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها . فيقول مَنْ أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلاً وتفريطاً فما النفع الذي انتفعت به ؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة ؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران ؟ وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة ، قال لها : هبك فعلت ما اشتهيت ، فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات ، وفوات الثواب وحصول العقاب - ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها . وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه ، وهو خاصة العقل الحقيقي . بخلاف الذي يدعي العقل ، وليس كذلك ، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة ، والراحة الراهنة ، ولو ترتب عليها ما ترتب . والله المستعان . ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : مَنْ تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ، ثم استغفر الله استغفاراً تاماً ، يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود . فهذا قد وعده مَنْ لا يخلف الميعاد ، بالمغفرة والرحمة . فيغفر له ما صدر منه من الذنب ، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب ، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ، ويوفقه فيما يستقبله من عمره ، ولا يجعل ذنبه حائلاً عن توفيقه ، لأنه قد غفره وإذا غفره ، غفر ما يترتب عليه . واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي ، الصغيرة والكبيرة ، وسمي " سوءاً " لكونه يسوء عامله بعقوبته ، ولكونه في نفسه سيئاً غير حسن . وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه . ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر ، قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه ، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس ، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم . ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده ، وسمي ظلم النفس " ظلماً " لأن نفس العبد ليست ملكاً له يتصرف فيها بما يشاء ، وإنما هي ملك لله تعالى ، قد جعلها أمانة عند العبد ، وأمره أن يقيمها على طريق العدل ، بإلزامها للصراط المستقيم ، علماً وعملاً ، فيسعى في تعليمها ما أمر به ، ويسعى في العمل بما يجب ، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة ، وعدول بها عن العدل ، الذي ضده الجور والظلم . ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير ، فمَنْ كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه ، لا تتعداها إلى غيرها ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر ، عمت عقوبتها ، وشمل إثمها ، فلا تخرج أيضاً عن حكم هذه الآية الكريمة ، لأن مَنْ ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة . وفي هذا بيان عدل الله وحكمته ، أنه لا يعاقب أحداً بذنب أحد ، ولا يعاقب أحداً أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه ، ولهذا قال : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : له العلم الكامل ، والحكمة التامة . ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه ، والسبب الداعي لفعله ، والعقوبة المترتبة على فعله ، ويعلم حالة المذنب ، أنه إن صدر منه الذنب ، بغلبة دواعي نفسه الأمّارة بالسوء ، مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته ، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة . وإن صدر منه بتجرئه على المحارم ، استخفافاً بنظر ربه ، وتهاوناً بعقابه ، فإن هذا بعيد من المغفرة ، بعيد من التوفيق للتوبة . ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً } أي : ذنباً كبيراً { أَوْ إِثْماً } ما دون ذلك . { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } أن يتهم بذنبه { بَرِيئاً } من ذلك الذنب ، وإن كان مذنبا . { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي : فقد حمل فوق ظهره بهتاً للبريء وإثماً ظاهراً بيناً ، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها ، فإنه قد جمع عدة مفاسد : كسب الخطيئة والإثم ، ثم رَمْي مَن لم يفعلها بفعلها ، ثم الكذب الشنيع ، بتبرئة نفسه واتهام البريء ، ثم ما يترتب على ذلك ، من العقوبة الدنيوية ، تندفع عمن وجبت عليه ، وتقام على مَنْ لا يستحقها . ثم ما يترتب على ذلك أيضاً من كلام الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ، ومن كل شر . ثم ذكر منّته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } . وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون ، أن سبب نزولها : أن أهل بيت سرقوا في المدينة ، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة ، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت مَنْ هو بريء من ذلك . واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رؤوس الناس ، وقالوا : إنه لم يسرق ، وإنما الذي سرق مَنْ وجدت السرقة ببيته ، وهو البريء . فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم ، فأنزل الله هذه الآيات تذكيراً وتبييناً لتلك الواقعة ، وتحذيراً للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن الخائنين ، فإن المخاصمة عن المبطل من الضلال ، فإن الضلال نوعان : ضلال في العلم ، وهو الجهل بالحق ، وضلال في العمل ، وهو العمل بغير ما يجب . فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال [ كما حفظه عن الضلال في الأعمال ] . وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم ، كحالة كل ماكر ، فقال : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } لكون ذلك المكر ، وذلك التحيل ، لم يحصل لهم فيه مقصودهم ، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران . وهذه نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم ، تتضمن النعمة بالعمل ، وهو التوفيق لفعل ما يجب ، والعصمة له عن كل محرم . ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال : { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } أي : أنزل عليك هذا القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، الذي فيه تبيان كل شيء ، وعلم الأولين والآخِرين . والحكمة : إما السُنّة التي قد قال فيها بعض السلف : إن السُنّة تنزل عليه كما ينزل القرآن . وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها ، وتنزيل الأشياء منازلها ، وترتيب كل شيء بحسبه . { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى . فإنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] . ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله ، حتى ارتقى مقاماً من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين ، فكان أعلم الخلق على الإطلاق ، وأجمعهم لصفات الكمال ، وأكملهم فيها ، ولهذا قال : { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق . وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به ، لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها .