Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 23-46)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } إلى آخر القصة . أي : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } إلى جنس هؤلاء المكذبين { مُوسَىٰ } ابن عمران ، { بِآيَاتِنَا } العظيمة ، الدالة دلالة قطعية ، على حقيّة ما أرسل به ، وبطلان ما عليه من أرسل إليهم من الشرك وما يتبعه . { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : حجة بيّنة ، تتسلط على القلوب فتذعن لها ، كالحية والعصا ونحوهما من الآيات البينات ، التي أيد الله بها موسى ، ومكّنه مما دعا إليه من الحق . والمبعوث إليهم { فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } وزيره { وَقَارُونَ } الذي كان من قوم موسى ، فبغى عليهم بماله ، وكلهم ردوا عليه أشد الرد { فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } . { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا } وأيده الله بالمعجزات الباهرة ، الموجبة لتمام الإذعان ، لم يقابلوها بذلك ، ولم يكفهم مجرد الترك والإعراض ، بل ولا إنكارها ومعارضتها بباطلهم ، بل وصلت بهم الحال الشنيعة إلى أن { قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ } حيث كادوا هذه المكيدة ، وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم ، لم يقووا ، وبقوا في رقهم وتحت عبوديتهم . فما كيدهم إلا في ضلال ، حيث لم يتم لهم ما قصدوا ، بل أصابهم ضد ما قصدوا ، أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم . وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى : إذا كان السياق في قصة معينة أو على شيء معين ، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم ، لا يختص به ذكر الحكم ، وعلقه على الوصف العام ليكون أعم ، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها ، وليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين . فلهذا لم يقل " وما كيدهم إلاّ في ضلال " بل قال : { وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } . { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } متكبراً متجبراً مغرراً لقومه السفهاء : { ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي : زعم - قبحه الله - أنه لولا مراعاة خواطر قومه لقتله ، وأنه لا يمنعه من دعاء ربه ، ثم ذكر الحامل له على إرادة قتله ، وأنه نصح لقومه ، وإزالة للشر في الأرض فقال : { إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ } الذي أنتم عليه { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } وهذا من أعجب ما يكون ، أن يكون شر الخلق ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج ، الذي لا يدخل إلاّ عقل مَنْ قال الله فيهم : { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ] . { وَقَالَ مُوسَىٰ } حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه ، واستعان فيها بقوته واقتداره ، مستعيناً بربه : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ } أي : امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع الأمور { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } أي : يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على الشر والفساد ، يدخل فيه فرعون وغيره ، كما تقدم قريباً في القاعدة ، فمنعه الله تعالى بلطفه من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، وقيّض له من الأسباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه . ومن جملة الأسباب ، هذا الرجل المؤمن ، الذي من آل فرعون ، من بيت المملكة ، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة ، وخصوصاً إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه ، فإنهم يراعونه في الغالب ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر ، كما منع الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب من قريش ، حيث كان أبو طالب كبيراً عندهم ، موافقاً لهم على دينهم ، ولو كان مسلماً لم يحصل منه ذلك المنع . فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم ، مقبحاً فعل قومه ، وشناعة ما عزموا عليه : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } أي : كيف تستحلون قتله ، وهذا ذنبه وجرمه ، أنه يقول ربي الله ، ولم يكن أيضاً قولاً مجرداً عن البينات ، ولهذا قال : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهاراً علم به الصغير والكبير ، أي : فهذا لا يوجب قتله . فهلاّ أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق ، وقابلتم البرهان ببرهان يرده ، ثم بعد ذلك نظرتم : هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا ؟ فأما وقد ظهرت حجته ، واستعلى برهانه ، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي . ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل ، بأي حالة قدرت ، فقال : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } أي : موسى بين أمرين ، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها ، فإن كان كاذباً فكذبه عليه ، وضرره مختص به ، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه ، وإن كان صادقاً وقد جاءكم بالبينات ، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذاباً في الدنيا وعذاباً في الآخرة ، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وهو عذاب الدنيا . وهذا من حسن عقله ، ولطف دفعه عن موسى ، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم ، وجعل الأمر دائراً بين تينك الحالتين ، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهلٌ منكم . ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه - إلى أمر أعلى من ذلك ، وبيان قرب موسى من الحق فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } أي : متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل . { كَذَّابٌ } بنسبته ما أسرف فيه إلى الله ، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب ، لا في مدلوله ولا في دليله ، ولا يوفق للصراط المستقيم ، أي : وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق ، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية ، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفاً ولا كاذباً ، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه . ثم حذّر قومه ونصحهم ، وخوفهم عذاب الآخرة ، ونهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر ، فقال : { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } أي : في الدنيا { ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ } على رعيتكم ، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير ، فهبكم حصل لكم ذلك وتم ، ولن يتم ، { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ } أي : عذابه { إِن جَآءَنَا } ؟ وهذا من حسن دعوته ، حيث جعل الأمر مشتركاً بينه وبينهم بقوله : { فَمَن يَنصُرُنَا } وقوله : { إِن جَآءَنَا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه ، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه . فـ { قَالَ فِرْعَوْنُ } معارضاً له في ذلك ، ومغرراً لقومه أن يتبعوا موسى : { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } وصدق في قوله : { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ } ولكن ما الذي رأى ؟ رأى أن يستخف قومه فيتابعوه ، ليقيم بهم رياسته ، ولم يرَ الحق معه ، بل رأى الحق مع موسى ، وجحد به مستيقناً له . وكذب في قوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } فإن هذا قلب للحق ، فلو أمرهم باتباعه اتباعاً مجرداً على كفره وضلاله ، لكان الشر أهون ، ولكنه أمرهم باتباعه ، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق ، اتباع الضلال . { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ } مكرراً دعوة قومه ، غير آيس من هدايتهم ، كما هي حالة الدعاة إلى الله تعالى ، لا يزالون يدعون إلى ربهم ، ولا يردهم عن ذلك راد ، ولا يثنيهم عتو من دعوه عن تكرار الدعوة ، فقال لهم : { يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ } يعني الأمم المكذبين ، الذين تحزبوا على أنبيائهم ، واجتمعوا على معارضتهم ، ثم بينهم فقال : { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } أي : مثل عادتهم في الكفر والتكذيب ، وعادة الله فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل الآخرة ، { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه ، ولا جرم أسلفوه . ولما خوفهم العقوبات الدنيوية ، خوفهم العقوبات الأخروية ، فقال : { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } أي : يوم القيامة ، حين ينادي أهل الجنة أهل النار : { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } إلى آخر الآيات [ الأعراف : 44 ] . { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الأعراف : 50 ] . وحين ينادي أهل النار مالكًا { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } فيقول : { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] وحين ينادون ربهم : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [ المؤمنون : 107 ] فيجيبهم : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] وحين يقال للمشركين : { ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } [ القصص : 64 ] . فخوفهم رضي الله عنه هذا اليوم المهول ، وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك ، ولهذا قال : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : قد ذهب بكم إلى النار { مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله ، ولا ينصركم من دونه من أحد { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } [ الطارق : 9 - 10 ] . { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } لأن الهدى بيد الله تعالى ، فإذا منع عبده الهدى لعلمه أنه غير لائق به ، لخبثه ، فلا سبيل إلى هدايته . { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ } بن يعقوب عليهما السلام من قبل إتيان موسى ، بالبينات الدالة على صدقه ، وأمركم بعبادة ربكم وحده لا شريك له ، { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ } في حياته { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ } ازداد شككم وشرككم ، و { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي : هذا ظنكم الباطل ، وحسبانكم الذي لا يليق بالله تعالى ، فإنه تعالى لا يترك خلقه سدى ، لا يأمرهم وينهاهم ، ويرسل إليهم رسله ، وظنٌّ أن الله لا يرسل رسولاً ظنُ ضلال ، ولهذا قال : { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ظلماً وعلواً ، فهم المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضلال ، وهم الكذبة ، حيث نسبوا ذلك إلى الله ، وكذبوا رسوله . فالذي وصفه السرف والكذب ، لا ينفك عنهما ، لا يهديه الله ، ولا يوفقه للخير ، لأنه رد الحق بعد أن وصل إليه وعرفه ، فجزاؤه أن يعاقبه الله ، بأن يمنعه الهدى ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 258 ] . ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال : { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ } التي بينت الحق من الباطل ، وصارت - من ظهورها - بمنزلة الشمس للبصر ، فهم يجادلون فيها على وضوحها ، ليدفعوها ويبطلوها { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي : بغير حجة وبرهان ، وهذا وصف لازم لكل مَنْ جادل في آيات الله ، فإنه من المحال أن يجادل بسلطان ، لأن الحق لا يعارضه معارض ، فلا يمكن أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصلاً ، { كَبُرَ } ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل { مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فالله أشد بغضاً لصاحبه ، لأنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق بالباطل ونسبته إليه ، وهذه أمور يشتد بغض الله لها ولمن اتصف بها ، وكذلك عباده المؤمنون يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم ، وهؤلاء خواص خلق الله تعالى ، فمقتهم دليل على شناعة من مقتوه ، { كَذَلِكَ } أي : كما طبع على قلوب آل فرعون { يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } متكبر في نفسه على الحق برده ، وعلى الخلق باحتقارهم ، جبار بكثرة ظلمه وعدوانه . { وَقَالَ فَرْعَوْنُ } معارضاً لموسى ومكذباً له في دعوته إلى الإقرار برب العالمين ، الذي على العرش استوى ، وعلى الخلق اعتلى : { يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً } أي : بناء عظيماً مرتفعاً ، والقصد منه لعلي أطلع { إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } في دعواه أن لنا رباً ، وأنه فوق السماوات . ولكنه يريد أن يحتاط فرعون ، ويختبر الأمر بنفسه ، قال الله تعالى في بيان الذي حمله على هذا القول : { وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوۤءُ عَمَلِهِ } فزين له العمل السيِّئ ، فلم يزل الشيطان يزينه ، وهو يدعو إليه ويحسنه ، حتى رآه حسناً ، ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين ، وهو من أعظم المفسدين ، { وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } الحق ، بسبب الباطل الذي زين له . { وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ } الذي أراد أن يكيد به الحق ، ويوهم به الناس أنه محق ، وأن موسى مبطل { إِلاَّ فِي تَبَابٍ } أي : خسار وبوار ، لا يفيده إلاّ الشقاء في الدنيا والآخرة . { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ } معيداً نصيحته لقومه : { يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ } لا كما يقول لكم فرعون ، فإنه لا يهديكم إلاّ طريق الغي والفساد . { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ } يتمتع بها ويتنعم قليلاً ، ثم تنقطع وتضمحل ، فلا تغرنكم وتخدعنكم عمّا خلقتم له { وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } التي هي محل الإقامة ، ومنزل السكون والاستقرار ، فينبغي لكم أن تؤثروها ، وتعملوا لها عملاً يسعدكم فيها . { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا } أي : لا يجازى إلا بما يسوؤه ويحزنه لأن جزاء السيئة السوء . { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } من أعمال القلوب والجوارح ، وأقوال اللسان { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يعطون أجرهم بلا حد ولا عد ، بل يعطيهم الله ما لا تبلغه أعمالهم . { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ } بما قلت لكم { وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ } بترك اتباع نبي الله موسى عليه السلام . ثم فسر ذلك فقال : { تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أنه يستحق أن يُعبد من دون الله ، والقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب وأقبحها ، { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ } الذي له القوة كلها ، وغيره ليس بيده من الأمر شيء . { ٱلْغَفَّارِ } الذي يسرف العباد على أنفسهم ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه ، كفّر عنهم السيئات والذنوب ، ودفع موجباتها من العقوبات الدنيوية والأخروية . { لاَ جَرَمَ } أي : حقًا يقينًا { أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ } أي : لا يستحق من الدعوة إليه ، والحث على اللجأ إليه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لعجزه ونقصه ، وأنه لا يملك نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ، ولا نشوراً . { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ } تعالى فسيجازي كل عامل بعمله . { وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بالتجرُّؤ على ربهم ، بمعاصيه والكفر به ، دون غيرهم . فلما نصحهم وحذّرهم وأنذرهم ، ولم يطيعوه ولا وافقوه ، قال لهم : { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ } من هذه النصيحة ، وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب ، وتحرمون جزيل الثواب . { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي : ألجأ إليه وأعتصم ، وألقي أموري كلها لديه ، وأتوكل عليه في مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم . { إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } يعلم أحوالهم وما يستحقون ، يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم ، ويعلم أحوالكم فلا تتصرفون إلا بإرادته ومشيئته ، فإن سلطكم علي ، َّ فبحكمة منه تعالى ، وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك . { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } أي : وقى الله القويّ الرحيم ، ذلك الرجل المؤمن الموفق ، عقوبات ما مكر فرعون وآله له ، من إرادة إهلاكه وإتلافه ، لأنه بادأهم بما يكرهون ، وأظهر لهم الموافقة التامة لموسى عليه السلام ، ودعاهم إلى ما دعاهم إليه موسى ، وهذا أمر لا يحتملونه ، وهم الذين لهم القدرة إذ ذاك ، وقد أغضبهم واشتد حنقهم عليه ، فأرادوا به كيداً ، فحفظه الله من كيدهم ومكرهم وانقلب كيدهم ومكرهم ، على أنفسهم ، { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } أغرقهم الله تعالى في صبيحةٍ واحدة عن آخرهم . وفي البرزخ { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } فهذه العقوبات الشنيعة ، التي تحل بالمكذبين لرسل الله ، المعاندين لأمره .