Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 29-29)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال ، وأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } أي : جادون ومجتهدون في عداوتهم ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة ، فلذلك ذلّ أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون ، { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } أي : متحابون متراحمون متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق ، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } أي : وصفهم كثرة الصلاة ، التي أجل أركانها الركوع والسجود . { يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه . { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } أي : قد أثرت العبادة - من كثرتها وحسنها - في وجوههم ، حتى استنارت ، لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت [ بالجلال ] ظواهرهم . { ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } أي : هذا وصفهم الذي وصفهم الله به ، مذكور بالتوراة هكذا . وأما مثلهم في الإنجيل ، فإنهم موصوفون بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ } أي : أخرج فراخه ، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء . { فَٱسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع أي : قوي وغلظ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } جمع ساق ، { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله ، كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه ، وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ ، ولهذا قال : { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم ، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال ، ومعامع القتال . { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } فالصحابة رضي الله عنهم ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة . ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في " الهدي النبوي " فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وتكلم على معانيها وأسرارها ، قال - رحمه الله تعالى : - فصل في قصة الحديبية قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم . وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان . قال أبو الأسود عن عروة : إنها كانت في ذي القعدة على الصواب . وفي الصحيحين عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، هكذا في الصحيحين عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفاً وأربعمائة ، وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفاً وثلاثمائة ، قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه الله وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : وقد صح عن جابر القولان ، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفاً وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم . والقلب إلى هذا أَمْيَل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة ، وغلط غلطاً بيَّناً من قال : كانوا سبعمائة ، وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلاً ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة . فصل فلما كانوا بذي الحليفة ، " قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهَدْيَ وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عيناً له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كانوا قريباً من عُسْفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت . واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت ؟ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذاً " فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بغبرة الجيش ، فانطلق يركض نذيراً لقريش . وسار النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها " ثم زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش . فانتزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها ، وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة أحدٌ من بني كعب يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عُمَّاراً ، وادعهم إلى الإسلام " . وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عُمَّاراً ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك . وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " ، فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : " ذاك ظني به ، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " ، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة . فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه ، وقال : " هذه عن عثمان " ، ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظناً . وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم . فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاؤوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " ، قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي : منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي : محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوهاً ، وأرى أوباشاً من الناس ، خليقاً أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك . وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف ، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي : غُدَر ، أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء " . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه . وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وَضُوئِه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر ، تعظيماً له . فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ، قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتاباً ، فدعا الكاتب ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهيل : أما الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم " . ثم قال : " اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل : فوالله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب . فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته علينا . فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " ، فقال : فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " ، فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : " بلى فافعل " ، قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً . قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " . قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : " إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه " ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به " . قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً . فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا وانحروا ، ثم احلقوا " ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك ، فقام فخرج ، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ، ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } [ الممتحنة : 10 ] فطلَّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة . وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ فقال : " نعم " ، فقال الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الفتح : 4 ] " الآية . انتهى .