Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 33-62)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إلى آخر السورة يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده ، فتولى عن ذلك وأعرض عنه ؟ فإن سمحت نفسه ببعض الشيء ، القليل ، فإنه لا يستمر عليه ، بل يبخل ويكدى ويمنع . فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة ، بل طبعه التولِّي عن الطاعة ، وعدم الثبوت على فعل المعروف ، ومع هذا ، فهو يزكِّي نفسه ، وينزلها غير منزلتها التي أنزلها الله بها . { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } الغيب ويخبر به ، أم هو متقول على الله ، متجرئ على الجمع بين الإساءة والتزكية كما هو الواقع ، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب ، وأنه لو قُدر أنه ادّعى ذلك فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي المعصوم ، تدلّ على نقيض قوله ، وذلك دليل على بطلانه . { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } هذا المدعي { بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } أي : قام بجميع ما ابتلاه الله به ، وأمره به من الشرائع وأصول الدين وفروعه ، وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي : كل عامل له عمله الحسن والسيئ ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء ، ولا يتحمل أحد عن أحدٍ ذنباً ، { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } في الآخرة فيميز حسنه من سيئه ، { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } أي : المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى ، والسيئ الخالص بالسَّوأى ، والمشوب بحسبه ، جزاءً تقرّ بعدله وإحسانه الخليقة كلها ، وتحمد الله عليه ، حتى إن أهل النار ليدخلون النار ، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم ، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم ، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم وأوردوها شر الموارد ، وقد استدل بقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } من يرى أن القُرَبَ لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك ، وفي هذا الاستدلال نظر ، فإن الآية إنما تدلّ على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه ، وهذا حق لا خلاف فيه ، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره ، إذا أهداه ذلك الغير له ، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده ، ولا يلزم من ذلك ، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه . وقوله : { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } أي : إليه تنتهي الأمور ، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور ، وإلى الله المنتهى في كل حال ، فإليه ينتهي العلم والحكم ، والرحمة وسائر الكمالات ، { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أي : هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء ، وهو الخير والشر ، والفرح والسرور والهم [ والحزن ] ، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك ، { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي : هو المنفرد بالإيجاد والإعدام ، والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم ، سيعيدهم بعد موتهم ، ويجازيهم بتلك الأعمال التي عملوها في دار الدنيا ، { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ } فسر الزوجين بقوله : { ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات ، ناطقها وبهيمها ، فهو المنفرد بخلقها ، { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة ، حيث أوجد تلك الحيوانات ، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين ، ثم نماها وكملها ، حتى بلغت ما بلغت ، ثم صار الآدمي منها إما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين ، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين . ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة ، فقال : { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } فيعيد العباد من الأجداث ، ويجمعهم ليوم الميقات ، ويجازيهم على الحسنات والسيئات ، { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أي : أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب ، من الحرف وغيرها ، وأقنى أي : أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها ، ما يصيرون به مقتنين لها ، ومالكين لكثير من الأعيان ، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى ، وهذا يوجب للعباد أن يشكروه ، ويعبدوه وحده لا شريك له ، { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } وهي النجم المعروف بالشعرى العبور ، المسماة بالمرزم ، وخصها الله بالذكر ، وإن كان رب كل شيء ، لأن هذا النجم مما عُبد في الجاهلية ، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق ، فكيف تتخذ إلهاً مع الله . { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } وهم قوم هود عليه السلام ، حين كذبوا هوداً ، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية ، { وَثَمُودَ } قوم صالح عليه السلام ، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه ، فبعث الله إليهم الناقة آية ، فعقروها وكذبوه ، فأهلكهم الله تعالى ، { فَمَآ أَبْقَىٰ } منهم أحداً ، بل أهلكهم الله عن آخرهم ، { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } من هؤلاء الأمم ، فأهلكهم الله وأغرقهم في اليم ، { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ } وهم قوم لوط عليه السلام { أَهْوَىٰ } أي : أصابهم الله بعذاب ما عذب به أحداً من العالمين ، قلب أسفل ديارهم أعلاها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، ولهذا قال : { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } أي : غشيها من العذاب الأليم الوخيم ما غشى أي : شيء عظيم لا يمكن وصفه . { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } أي : فبأي : نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان ؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل الشك بوجه من الوجوه ، فما بالعباد من نعمة إلا منه تعالى ، ولا يدفع النقم إلا هو . { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } أي : هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله ، ليس ببدع من الرسل ، بل قد تقدمه من الرسل السابقين ، ودعوا إلى ما دعا إليه ، فلأي شيء تنكر رسالته ؟ وبأي حجة تبطل دعوته ؟ أليست أخلاقه [ أعلا ] أخلاق الرسل الكرام ، أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر ؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام ؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ؟ { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أي : قربت القيامة ، ودنا وقتها ، وبانت علاماتها ، { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي : إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به . ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم ، فقال : { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } ؟ أي : أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون منه ، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور [ والحقائق ] المعروفة ؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم ، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق ، وإذا قال قولاً فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل ، وهو القرآن العظيم ، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، الذي يزيد ذوي الأحلام رأياً وعقلاً ، وتسديداً وثباتاً ، وإيماناً ويقيناً والذي ينبغي العجب من عقل من تعجّب منه ، وسفهه وضلاله . { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } أي : تستعملون الضحك والاستهزاء به ، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس ، وتلين له القلوب ، وتبكي له العيون ، سماعاً لأمره ونهيه ، وإصغاءً لوعده ووعيده ، والتفاتاً لأخباره الحسنة الصادقة { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي : غافلون عنه ، لاهون عن تدبره ، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم ، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } الأمر بالسجود لله خصوصاً ، ليدل ذلك على فضله ، وأنه سر العبادة ولبها ، فإن لبها الخشوع لله والخضوع له ، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد ، فإنه يخضع قلبه وبدنه ، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام . ثم أمر بالعبادة عموماً ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة .