Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-13)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الأموال أموال الفيء لمن قدرها له ، وأنهم حقيقون بالإعانة ، مستحقون لأن تجعل لهم ، وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات ، من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال ، رغبةً في الله ونصرة لدين الله ، ومحبةً لرسول الله ، فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم ، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقة ، بخلاف من ادّعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات ، وبين أنصارٍ وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله طوعاً ومحبةً واختياراً ، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعوه من الأحمر والأسود ، وتبوؤوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً ، وينمو قليلاً قليلاً ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان . الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه . { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها . ويدلّ ذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدلّ على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة . وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعاً ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رُزِق الإيثار فقد وُقِي شح نفسه { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وُقِيَ العبد شُحَّ نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعاً منقاداً ، منشرحاً بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوباً للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين . وحَسبُ من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ، ويأتمّ بهداهم ، ولهذا ذكر الله من اللاحقين من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد المهاجرين والأنصار { يَقُولُونَ } على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } . وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ، السابقين من الصحابة ، ومن قبلهم ومن بعدهم ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ، ويدعو بعضهم لبعض ، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين ، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ، وأن يحب بعضهم بعضاً . ولهذا ذكر الله في الدعاء نَفْيَ الغل عن القلب ، الشامل لقليل الغل وكثيره ، الذي إذا انتفى ثبت ضده ، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح ، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين . فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان ، لأن قولهم : { سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } دليل على المشاركة في الإيمان ، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله ، وهم أهل السنة والجماعة ، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم ، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها ، واستغفار بعضهم لبعض ، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين ، لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا ، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضاً ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، وأن ينصح له حاضراً وغائباً ، حياً وميتاً ، ودلت الآية الكريمة [ على ] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض ، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم ، الذي من جملته ، بل من أجلّه ، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده . فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة ، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام . وهؤلاء أهله الذين هم أهله ، جعلنا الله منهم ، بمنّه وكرمه . ثم تعجب تعالى من حال المنافقين الذين طَمَّعوا إخوانهم من أهل الكتاب ، في نصرتهم ، وموالاتهم على المؤمنين ، وأنهم يقولون لهم : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } أي : لا نطيع في عدم نصرتكم أحداً يعذلنا أو يخوفنا ، { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم ، ولا يستكثر هذا عليهم ، فإن الكذب وصفهم ، والغرور والخداع مقارنهم ، والنفاق والجبن يصحبهم ، ولهذا كذبهم [ الله ] بقوله ، الذي وجد مخبره كما أخبر الله به ، ووقع طبق ما قال ، فقال : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ } من ديارهم جلاءً ونفياً { لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ } لمحبتهم للأوطان ، وعدم صبرهم على القتال ، وعدم وفائهم بوعدهم . { وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ } بل يستولي عليهم الجبن ، ويملكهم الفشل ، ويخذلون إخوانهم ، أحوج ما كانوا إليهم . { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } على الفرض والتقدير { لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي : ليحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة ، ولا يحصل لهم نصر من الله . والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم - أيها المؤمنون - { أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ } فخافوا منكم أعظم مما يخافون الله ، وقدموا مخافة المخلوق الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ، على مخافة الخالق ، الذي بيده الضر والنفع ، والعطاء والمنع . { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } مراتب الأمور ، ولا يعرفون حقائق الأشياء ، ولا يتصورون العواقب ، وإنما الفقه كل الفقه ، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها ، وغيرها تبعاً لها .