Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 61, Ayat: 10-14)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين ، لأعظم تجارة ، وأجلّ مطلوب ، وأعلى مرغوب ، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالنعيم المقيم . وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر ، ويسمو إليه كل لبيب ، فكأنه قيل : ما هذه التجارة التي هذا قدرها ؟ فقال { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } . ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به ، المستلزم لأعمال الجوارح ، ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل الله ، فلهذا قال : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم لمصادمة أعداء الإسلام ، والقصد نصر دين الله وإعلاء كلمته ، وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب ، فإن ذلك ، ولو كان كريهاً للنفوس شاقاً عليها ، فإنه { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فإن فيه الخير الدنيوي ، من النصر على الأعداء ، والعز المنافي للذل والرزق الواسع ، وسعة الصدر وانشراحه . وفي الآخرة الفوز بثواب الله والنجاة من عقابه ، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة ، فقال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وهذا شامل للصغائر والكبائر ، فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، مكفر للذنوب ، ولو كانت كبائر . { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي : من تحت مساكنها [ وقصورها ] وغرفها وأشجارها ، أنهارٌ من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، ولهم فيها من كل الثمرات ، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : جمعت كل طيب ، من علو وارتفاع ، وحسن بناء وزخرفة ، حتى إن أهل الغرف من أهل عليين ، يتراءآهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي ، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [ وبعضه من ] لبن فضة ، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان ، وبعض المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن الألوان ، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين ، ولا خطر على قلب أحد من العالمين ، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه ، ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم به ، ففي تلك الحالة ، لولا أن الله خلق أهل الجنة ، وأنشأهم نشأة كاملة لا تقبل العدم ، لأوشك أن يموتوا من الفرح ، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده ، وتبارك الجليل الجميل ، الذي أنشأ دار النعيم ، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم . وتعالى من له الحكمة التامة ، التي من جملتها ، أنه الله لو أرى الخلائق الجنة حين خلقها ، ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد ، ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة ، المشوب نعيمها بألمها ، وسرورها بترحها . وسميت الجنة جنة عدن ، لأن أهلها مقيمون فيها ، لا يخرجون منها أبداً ، ولا يبغون عنها حولاً ، ذلك الثواب الجزيل ، والأجر الجميل ، الفوز العظيم ، الذي لا فوز مثله ، فهذا الثواب الأخروي . وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة ، فذكره بقوله : { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا } أي : ويحصل لكم خصلة أخرى تحبونها وهي : { نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ } [ لكم ] على الأعداء ، يحصل به العز والفرح ، { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } تتسع به دائرة الإسلام ، ويحصل به الرزق الواسع ، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين ، وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد ، [ إذا قام غيرهم بالجهاد ] فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه ، بل قال : { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : بالثواب العاجل والآجل ، كل على حسب إيمانه ، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " . ثم قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } [ أي : ] بالأقوال والأفعال ، وذلك بالقيام بدين الله ، والحرص على إقامته تنفيذه على الغير ، وجهاد من عانده ونابذه بالأبدان والأموال ، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق ، بدحض حجته ، وإقامة الحجة عليه ، والتحذير منه . ومن نصر دين الله ، تَعَلُّمُ كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، [ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] . ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي : قال لهم عارضاً ومنهضاً من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله ، ويدخل مدخلي ويخرج مخرجي ؟ فابتدر الحواريون ، فقالوا : { نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه ، هو ومن معه من الحواريين ، { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى والحواريين ، { وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } منهم ، فلم ينقادوا لدعوتهم ، فجاهد المؤمنون الكافرين ، { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ } أي : قويناهم ونصرناهم عليهم . { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [ لهم ] ، فأنتم يا أمة محمد كونوا أنصار الله ودعاة دينه ، ينصركم الله كما نصر من قبلكم ، ويظهركم على عدوكم .