Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 103-171)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } إلى آخر قصته . أي : ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى الكليم ، الإمام العظيم ، والرسول الكريم ، إلى قوم عتاة جبابرة ، وهم فرعون وملئه ، من أشرافهم وكبرائهم ، فأراهم من آيات اللّه العظيمة ما لم يشاهد له نظير { فَظَلَمُواْ بِهَا } بأن لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له فهو ظالم ، بل استكبروا عنها { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } كيف أهلكهم اللّه ، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة ، بئس الرفد المرفود ، وهذا مجمل فصله بقوله : { وَقَالَ مُوسَىٰ } حين جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان { يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي : إني رسول من مرسل عظيم ، وهو رب العالمين ، الشامل للعالم العلوي والسفلي ، مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية ، التي من جملتها أنه لا يتركهم سدى ، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وهو الذي لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه ، ويدعي أنه أرسله ولم يرسله . فإذا كان هذا شأنه ، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته ، فحقيق عليَّ أن لا أكذب عليه ، ولا أقول عليه إلا الحق ، فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة ، وأخذني أخذ عزيز مقتدر . فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه ، خصوصاً وقد جاءهم ببينة من اللّه واضحة على صحة ما جاء به من الحق ، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته ، ولها مقصودان عظيمان . إيمانهم به ، واتباعهم له ، وإرسال بني إسرائيل الشعب الذي فضله اللّه على العالمين ، أولاد الأنبياء ، وسلسلة يعقوب عليه السلام ، الذي موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم . فقال له فرعون : { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ } موسى { عَصَاهُ } في الأرض { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي : حية ظاهرة تسعى ، وهم يشاهدونها . { وَنَزَعَ يَدَهُ } من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } من غير سوء ، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه ، وأنه رسول رب العالمين ، ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، فلهذا { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } حين بهرهم ما رأوا من الآيات ، ولم يؤمنوا ، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة : { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي : ماهر في سحره ، ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول ، بأنه { يُرِيدُ } موسى بفعله هذا { أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } أي : يريد أن يجليكم عن أوطانكم { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي : إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى ، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم ، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه ، وإلا دخل في عقول أكثر الناس . فحينئذٍ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي : احبسهما وأمهلهما ، وابعث في المدائن أناساً يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم ، أي : يجيئون بالسحرة المهرة ، ليقابلوا ما جاء به موسى ، فقالوا : يا موسى اجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى . { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ } [ طه : 59 - 60 ] وقال هنا : { وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ } طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ { قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } ؟ فـ { قَالَ } فرعون : { نَعَمْ } لكم أجر { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } فوعدهم الأجر والتقريب ، وعلو المنزلة عنده ، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى ، فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم { قَالُواْ } على وجه التألي وعدم المبالاة بما جاء به موسى : { يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } ما معك { وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ } فـ { قَالَ } موسى : { أَلْقُوْاْ } لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى . { فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ } حبالهم وعصيهم ، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى ، فـ { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } لم يوجد له نظير من السحر . { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فَأَلْقَاهَا { فَإِذَا هِيَ } حية تسعى ، فـ { تَلْقَفُ } جميع { مَا يَأْفِكُونَ } أي : يكذبون به ويموهون . { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ } أي : تبين وظهر ، واستعلن في ذلك المجمع ، { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } أي : في ذلك المقام { وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } أي : حقيرين قد اضمحل باطلهم ، وتلاشى سحرهم ، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله . وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر ، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته ما لا يعرفه غيرهم ، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات اللّه لا يدان لأحد بها . { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } أي : وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات . فـ { قَالَ } لهم { فِرْعَوْنُ } متهدداً على الإيمان : { آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } كان الخبيث حاكماً مستبداً على الأبدان والأقوال ، قد تقرر عنده وعندهم أن قوله هو المطاع ، وأمره نافذ فيهم ، ولا خروج لأحد عن قوله وحكمه ، وبهذه الحالة تنحط الأمم ، وتضعف عقولها ونفوذها ، وتعجز عن المدافعة عن حقوقها ، ولهذا قال اللّه عنه : { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [ الزخرف : 54 ] وقال هنا : { آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } أي : فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ عليَّ . ثم موه على قومه وقال : { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أي : إن موسى كبيركم الذي علمكم السحر ، فتواطأتم أنتم وهو على أن تنغلبوا له ، فيظهر فتتبعوه ، ثم يتبعكم الناس أو جمهورهم ، فتخرجوا منها أهلها . وهذا كذب يعلم هو ومن سبر الأحوال ، أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجتمع بأحد منهم ، وأنهم جمعوا على نظر فرعون ورسله ، وأن ما جاء به موسى آية إلهيّة ، وأن السحرة قد بذلوا مجهودهم في مغالبة موسى ، حتى عجزوا وتبين لهم الحق ، فاتبعوه . ثم توعدهم فرعون بقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما أحل بكم من العقوبة ، { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } زعم الخبيث أنهم مفسدون في الأرض ، وسيصنع بهم ما يصنع بالمفسدين ، من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، أي : اليد اليمنى والرجل اليسرى . { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ } في جذوع النخل ، لتختزوا بزعمه { أَجْمَعِينَ } أي : لا أفعل هذا الفعل بأحد دون أحد ، بل كلكم سيذوق هذا العذاب ، فقال السحرة الذين آمنوا لفرعون حين تهددهم : { قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أي : فلا نبالي بعقوبتك ، فاللّه خير وأبقى ، فاقض ما أنت قاض . { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ } أي : وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا ؟ فليس لنا ذنب { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } [ بآيَاتِ ] ربنا [ لما جاءتنا ] فإن كان هذا ذنباً يعاب عليه ، ويستحق صاحبه العقوبة ، فهو ذنبنا . ثم دعوا اللّه أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ } أي : أفض { عَلَيْنَا صَبْراً } أي : عظيماً ، كما يدل عليه التنكير ، لأن هذه محنة عظيمة ، تؤدي إلى ذهاب النفس ، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير ، ليثبت الفؤاد ، ويطمئن المؤمن على إيمانه ، ويزول عنه الانزعاج الكثير . { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : منقادين لأمرك ، متبعين لرسولك ، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه ، وأن اللّه تعالى ثبتهم على الإيمان . هذا وفرعون وملأه وعامتهم المتبعون للملأ ، قد استكبروا عن آيات اللّه ، وجحدوا بها ظلماً وعلواً ، وقالوا لفرعون مهيجين له على الإيقاع بموسى ، وزاعمين أن ما جاء باطل وفساد : { أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بالدعوة إلى اللّه ، وإلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، التي هي الصلاح في الأرض ، وما هم عليه هو الفساد ، ولكن الظالمين لا يبالون بما يقولون . { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } أي : يدعك أنت وآلهتك ، وينهى عنك ، ويصد الناس عن اتباعك . فـ { قَالَ } فرعون مجيباً لهم ، بأنه سيدع بني إسرائيل مع موسى بحالة لا ينمون فيها ، ويأمن فرعون وقومه - بزعمه - من ضررهم : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ } أي : نستبقيهن فلا نقتلهن ، فإذا فعلنا ذلك أمنا من كثرتهم ، وكنا مستخدمين لباقيهم ، ومسخرين لهم على ما نشاء من الأعمال { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } لا خروج لهم عن حكمنا ولا قدرة ، وهذا نهاية الجبروت من فرعون والعتو والقسوة . فـ { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } موصياً لهم في هذه الحالة ، - التي لا يقدرون معها على شيء ، ولا مقاومة - بالمقاومة الإلهية ، والاستعانة الربانية : { ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ } أي : اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم ، ودفع ما يضركم ، وثقوا باللّه أنه سيتم أمركم { وَٱصْبِرُوۤاْ } أي : الزموا الصبر على ما يحل بكم ، منتظرين للفرج . { إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ } ليست لفرعون ولا لقومه حتى يتحكموا فيها { يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : يداولها بين الناس على حسب مشيئته وحكمته ، ولكن العاقبة للمتقين ، فإنهم - وإن امتحنوا مدة ابتلاء من اللّه وحكمة ، فإن النصر لهم ، { وَٱلْعَاقِبَةُ } الحميدة لهم على قومهم وهذه وظيفة العبد ، أنه عند القدرة ، أن يفعل من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير ، ما يقدر عليه ، وعند العجز ، أن يصبر ويستعين اللّه ، وينتظر الفرج . { قَالُوۤاْ } لموسى متضجرين من طول ما مكثوا في عذاب فرعون ، وأذيته : { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } فإنهم يسوموننا سوء العذاب ، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } كذلك فـ { قَالَ } لهم موسى مرجياً [ لهم ] الفرج والخلاص من شرهم : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي : يمكنكم فيها ، ويجعل لكم التدبير فيها { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } هل تشكرون أم تكفرون ؟ . وهذا وعد أنجزه اللّه لما جاء الوقت الذي أراده اللّه . قال اللّه تعالى في بيان ما عامل به آل فرعون في هذه المدة الأخيرة ، أنها على عادته وسنته في الأمم ، أن يأخذهم بالبأساء والضراء ، لعلهم يضرعون . الآيات : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ } أي : بالدهور والجدب ، { وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : يتعظون أن ما حل بهم وأصابهم معاتبة من اللّه لهم ، لعلهم يرجعون عن كفرهم ، فلم ينجع فيهم ولا أفاد ، بل استمروا على الظلم والفساد . { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ } أي : الخصب وإدرار الرزق { قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ } أي : نحن مستحقون لها ، فلم يشكروا اللّه عليها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قحط وجدب { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } أي : يقولوا : إنما جاءنا بسبب مجيء موسى ، واتباع بني إسرائيل له . قال اللّه تعالى : { أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ } أي : بقضائه وقدرته ، ليس كما قالوا ، بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك ، بل { أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : فلذلك قالوا ما قالوا . { وَقَالُواْ } مبينين لموسى أنهم لا يزالون ، ولا يزولون عن باطلهم : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : قد تقرر عندنا أنك ساحر ، فمهما جئت بآية ، جزمنا أنها سحر ، فلا نؤمن لك ولا نصدق ، وهذا غاية ما يكون من العناد ، أن يبلغ بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالات ، سواء نزلت عليهم الآيات أم لم تنزل . { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ } أي : الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم ، وأضر بهم ضرراً كثيراً { وَٱلْجَرَادَ } فأكل ثمارهم وزروعهم ، ونباتهم { وَٱلْقُمَّلَ } قيل : إنه الدباء ، أي : صغار الجراد ، والظاهر أنه القمل المعروف { وَٱلضَّفَادِعَ } فملأت أوعيتهم ، وأقلقتهم ، وآذتهم أذية شديدة { وَٱلدَّمَ } إما أن يكون الرعاف ، أو كما قال كثير من المفسرين ، أن ماءهم الذي يشربون انقلب دماً ، فكانوا لا يشربون إلا دماً ، ولا يطبخون إلا بدم . { آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ } أي : أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين ، وعلى أن ما جاء به موسى حق وصدق { فَٱسْتَكْبَرُواْ } لما رأوا الآيات { وَكَانُواْ } في سابق أمرهم { قَوْماً مُّجْرِمِينَ } فلذلك عاقبهم اللّه تعالى ، بأن أبقاهم على الغي والضلال . { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ } أي : العذاب ، يحتمل أن المراد به : الطاعون ، كما قاله كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، فإنها رجز وعذاب ، وأنهم كلما أصابهم واحد منها { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : تشفعوا بموسى بما عهد اللّه عنده من الوحي والشرع ، { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } وهم في ذلك كذبة ، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب ، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره . { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ } أي : إلى مدة قدَّر اللّه بقاءهم إليها ، وليس كشفاً مؤبداً ، وإنما هو مؤقت ، { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } العهد الذي عاهدوا عليه موسى ، ووعدوه بالإيمان به ، وإرسال بني إسرائيل ، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل ، بل استمروا على كفرهم يعمهون ، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين . { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : حين جاء الوقت المؤقت لهلاكهم ، أمر اللّه موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلاً ، وأخبره أن فرعون سيتبعهم هو وجنوده { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [ الشعراء : 53 ] يجمعون الناس ليتبعوا بني إسرائيل ، وقالوا لهم : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } [ الشعراء : 54 - 66 ] . وقال هنا : { فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : بسبب تكذيبهم بآيات اللّه وإعراضهم عما دلت عليه من الحق . { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } في الأرض ، أي : بني إسرائيل الذين كانوا خدمة لآل فرعون ، يسومونهم سوء العذاب أورثهم اللّه { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } والمراد بالأرض هاهنا ، أرض مصر التي كانوا فيها مستضعفين ، أذلين ، أي : ملكهم اللّه جميعاً ، ومكنهم فيها الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } حين قال لهم موسى : { ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] . { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } من الأبنية الهائلة ، والمساكن المزخرفة { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 52 ] . { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ } بعد ما أنجاهم اللّه من عدوهم فرعون وقومه ، وأهلكهم اللّه ، وبنوا إسرائيل ينظرون . { فَأَتَوْاْ } أي : مروا { عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } أي : يقيمون عندها ويتبركون بها ، ويعبدونها . فـ { قَالُواْ } من جهلهم وسفههم لنبيهم موسى بعدما أراهم الله من الآيات ما أراهم { يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } أي : اشرع لنا أن نتخذ أصناماً آلهة كما اتخذها هؤلاء . فـ { قَالَ } لهم موسى : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وأي جهل أعظم من جهل من جَهِلَ ربه وخالقه وأراد أن يسوي به غيره ، ممن لا يملك نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ؟ ! ! ولهذا قال لهم موسى : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لأن دعاءهم إياها باطل ، وهي باطلة بنفسها ، فالعمل باطل وغايته باطلة . { قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهاً } أي : أأطلب لكم إلهاً غير اللّه المألوه ، الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله . { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } فيقتضي أن تقابلوا فضله وتفضيله بالشكر ، وذلك بإفراده وحده بالعبادة ، والكفر بما يدعي من دونه . ثم ذكرهم بما امتن اللّه به عليهم فقال : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ } أي : من فرعون وآله { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } أي : يوجهون إليكم من العذاب أسوأه ، وهو أنهم كانوا { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ } النجاةُ من عذابهم { بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي : نعمة جليلة ، ومنحة جزيلة ، أو : وفي ذلك العذاب الصادر منهم لكم بلاء من ربكم عليكم عظيم ، فلما ذكرهم موسى ووعظهم انتهوا عن ذلك . ولما أتم اللّه نعمته عليهم بالنجاة من عدوهم ، وتمكينهم في الأرض ، أراد تبارك وتعالى أن يتم نعمته عليهم ، بإنزال الكتاب الذي فيه الأحكام الشرعية ، والعقائد المرضية ، فواعد موسى ثلاثين ليلة ، وأتمها بعشر ، فصارت أربعين ليلة ، ليستعد موسى ، ويتهيأ لوعد اللّه ، ويكون لنزولها موقع كبير لديهم ، وتشوق إلى إنزالها . ولما ذهب موسى إلى ميقات ربه قال لهارون موصياً له على بني إسرائيل من حرصه عليهم وشفقته : { ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } أي : كن خليفتي فيهم ، واعمل فيهم بما كنت أعمل ، { وَأَصْلِحْ } أي : اتبع طريق الصلاح { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } وهم الذين يعملون بالمعاصي . { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } الذي وقتناه له لإنزال الكتاب { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه ، تشوق إلى رؤية اللّه ، ونزعت نفسه لذلك ، حباً لربه ومودةً لرؤيته . فـ { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } اللَّهِ { لَن تَرَانِي } أي : لن تقدر الآن على رؤيتي ، فإن اللّه تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ، ولا يثبتون لرؤية اللّه ، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة ، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وأنه ينشئهم نشأة كاملة ، يقدرون معها على رؤية اللّه تعالى ، ولهذا رتب اللّه الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل ، فقال - مقنعاً لموسى في عدم إجابته للرؤية - { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } إذا تجلى اللّه له { فَسَوْفَ تَرَانِي } . { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } الأصم الغليظ { جَعَلَهُ دَكّاً } أي : انهال مثل الرمل ، انزعاجاً من رؤية اللّه وعدم ثبوته لها ، { وَخَرَّ موسَىٰ } حين رأى ما رأى { صَعِقاً } فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية اللّه ، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك ، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال ، الذي لم يوافق موضعاً و [ لذلك ] { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً لك ، وتعظيماً عما لا يليق بجلالك { تُبْتُ إِلَيْكَ } من جميع الذنوب ، وسوء الأدب معك { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه ، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك ، فلما منعه اللّه من رؤيته - بعدما ما كان متشوقاً إليها - أعطاه خيراً كثيراً فقال : { يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي : اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك بفضائل عظيمة ، ومناقب جليلة ، { بِرِسَالاَتِي } التي لا أجعلها ، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق . { وَبِكَلاَمِي } إياك من غير واسطة ، وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم ، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين ، { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } من النعم ، وخذ ما آتيتك من الأمر والنهي بانشراح صدر ، وتلقه بالقبول والانقياد ، { وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } لله على ما خصك وفضلك . { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يحتاج إليه العباد { مَّوْعِظَةً } ترغب النفوس في أفعال الخير ، وترهبهم من أفعال الشر ، { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } من الأحكام الشرعية ، والعقائد والأخلاق والآداب { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بجد واجتهاد على إقامتها ، { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } وهي الأوامر الواجبة والمستحبة ، فإنها أحسنها ، وفي هذا دليل على أن أوامر اللّه - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة . { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ } بعد ما أهلكهم اللّه ، وأبقى ديارهم عبرة بعدهم ، يعتبر بها المؤمنون الموفقون المتواضعون . وأما غيرهم ، فقال عنهم : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } أي : عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية ، والفهم لآيات الكتاب { ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي : يتكبرون على عباد اللّه وعلى الحق ، وعلى من جاء به ، فمن كان بهذه الصفة ، حرمه اللّه خيراً كثيراً وخذله ، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به ، بل ربما انقلبت عليه الحقائق ، واستحسن القبيح . { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } لإعراضهم واعتراضهم ، ومحادتهم للّه ورسوله ، { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ } أي : الهدى والاستقامة ، وهو الصراط الموصل إلى اللّه ، وإلى دار كرامته . { لاَ يَتَّخِذُوهُ } أي : لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ } أي : الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } والسبب في انحرافهم هذا الانحراف { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } فردهم لآيات اللّه ، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي ، وترك طريق الرشد ما أوجب . { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا . { وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } لأنها على غير أساس ، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات اللّه ، والتصديق بجزائه { هَلْ يُجْزَوْنَ } في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر ، لا يرجو فيها ثواباً ، وليس لها غاية تنتهي إليه ، فلذلك اضمحلت وبطلت { وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً } صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار { لَّهُ خُوَارٌ } وصوت ، فعبدوه واتخذوه إلهاً . وقال { هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ } [ طه : 88 ] موسى ، وذهب يطلبه ، وهذا من سفههم ، وقلة بصيرتهم ، كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات ، بعجل من أنقص المخلوقات ؟ ! ! ولهذا قال مبيناً أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية ، ما يوجب أن يكون إلهاً { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ } أي : وعدم الكلام نقص عظيم ، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد ، الذي لا يتكلم { وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } أي : لا يدلهم طريقاً دينياً ، ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية ، لأن من المتقرر في العقول والفطر ، أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر من أبطل الباطل ، وأسمج السفه ، ولهذا قال : { ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } حيث وضعوا العبادة في غير موضعها ، وأشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطاناً ، وفيها دليل على أن من أنكر كلام اللّه ، فقد أنكر خصائص إلهية اللّه تعالى ، لأن اللّه ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية . { وَلَمَّا } رجع موسى إلى قومه ، فوجدهم على هذه الحال ، وأخبرهم بضلالهم ندموا و { سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ } أي : من الهم والندم على فعلهم ، { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } فتنصلوا ، إلى اللّه وتضرعوا و { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } فيدلنا عليه ، ويرزقنا عبادته ، ويوفقنا لصالح الأعمال ، { وَيَغْفِرْ لَنَا } ما صدر منا من عبادة العجل { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } الذين خسروا الدنيا والآخرة . { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً } أي : ممتلئاً غضباً وغيظاً عليهم ، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام ، وكمال نصحه وشفقته ، { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ } أي : بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم ، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي ، والشقاء السرمدي . { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } حيث وعدكم بإنزال الكتاب . فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة { وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ } أي : رماها من الغضب { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } هارون ولحيته { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } وقال له : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 92 - 93 ] لك بقولي : { ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِين } [ الأعراف : 142 ] فـ { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ] و { قَالَ } هنا { ٱبْنَ أُمَّ } هذا ترقيق لأخيه ، بذكر الأم وحدها ، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه : { إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي } أي : احتقروني حين قلت لهم : { يٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِي } [ طه : 90 ] { وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } أي : فلا تظن بي تقصيراً { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ } بنهرك لي ، ومسّك إياي بسوء ، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرة ، أو يطلعوا لي على زلة { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } فتعاملني معاملتهم . فندم موسى عليه السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته ، مما ظنه فيه من التقصير ، و { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي } هارون { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } أي : في وسطها ، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب ، فإنها حصن حصين من جميع الشرور ، وثمَّ كل الخير وسرور . { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } أي : أرحم بنا من كل راحم ، أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا ، قال اللّه تعالى مبيناً حال أهل العجل الذين عبدوه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ } أي : إلهاً { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره . { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ } فكل مفتر على اللّه ، كاذب على شرعه ، متقول عليه ما لم يقل ، فإن له نصيباً من الغضب من اللّه ، والذل في الحياة الدنيا ، وقد نالهم غضب اللّه ، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم ، وأنه لا يرضى اللّه عنهم إلا بذلك ، فقتل بعضهم بعضاً ، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى ، ثم تاب اللّه عليهم بعد ذلك ، ولهذا ذكر حكماً عاماً يدخلون فيه هم وغيرهم ، فقال : { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } من شرك وكبائر ، وصغائر { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا } بأن ندموا على ما مضى وأقلعوا عنها ، وعزموا على أن لا يعودوا { وَآمَنُوۤاْ } باللّه وبما أوجب اللّه من الإيمان به ، ولا يتم الإيمان إلا بأعمال القلوب ، وأعمال الجوارح المترتبة على الإيمان { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : بعد هذه الحالة ، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى الطاعات ، { لَغَفُورٌ } يغفر السيئات ويمحوها ، ولو كانت قراب الأرض { رَّحِيمٌ } بقبول التوبة ، والتوفيق لأفعال الخير وقبولها . { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } أي : سكن غضبه ، وتراجعت نفسه ، وعرف ما هو فيه ، اشتغل بأهم الأشياء عنده ، فـ { أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ } التي ألقاها ، وهي ألواح عظيمة المقدار ، جليلة { وَفِي نُسْخَتِهَا } أي : مشتملة ومتضمنة { هُدًى وَرَحْمَةٌ } أي : فيها الهدى من الضلالة ، وبيان الحق من الباطل ، وأعمال الخير وأعمال الشر ، والهدى لأحسن الأعمال ، والأخلاق ، والآداب ، ورحمة وسعادة لمن عمل بها ، وعلم أحكامها ومعانيها ، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى اللّه ورحمته ، وإنما يقبل ذلك وينقاد له ، ويتلقاه بالقبول الذين [ هم ] { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أي : يخافون منه ويخشونه ، وأما من لم يخف اللّه ولا المقام بين يديه ، فإنه لا يزداد بها إلا عتواً ونفوراً ، وتقوم عليه حجة اللّه فيها . { وَ } لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم { ٱخْتَارَ مُوسَىٰ } منهم { سَبْعِينَ رَجُلاً } من خيارهم ، ليعتذروا لقومهم عند ربهم ، ووعدهم اللّه ميقاتاً يحضرون فيه ، فلما حضروه ، قالوا : يا موسى ، { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فتجرؤوا على اللّه جراءة كبيرة ، وأساؤوا الأدب معه ، فـ { أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } فصعقوا وهلكوا . فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام ، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم ، فصاروا هم الظالمين { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } أي : ضعفاء العقول ، سفهاء الأحلام ، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة ، تردعهم عما قالوا وفعلوا ، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان ، ويخاف من ذهاب دينه فقال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } أي : أنت خير من غفر ، وأولى من رحم ، وأكرم من أعطى وتفضل ، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام قال : المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا ، هو التزام طاعتك والإيمان بك ، وأن من حضره عقله ورشده ، وتم على ما وهبته من التوفيق ، فإنه لم يزل مستقيماً ، وأما من ضعف عقله ، وسفه رأيه ، وصرفته الفتنة ، فهو الذي فعل ما فعل ، لذينك السببين ، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، فاغفر لنا وارحمنا . فأجاب اللّه سؤاله ، وأحياهم من بعد موتهم ، وغفر لهم ذنوبهم . وقال موسى في تمام دعائه { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } من علم نافع ، ورزق واسع ، وعمل صالح . { وَفِي ٱلآخِرَةِ } حسنة وهي ما أعد اللّه لأوليائه الصالحين من الثواب . { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } أي : رجعنا مقرين بتقصيرنا ، منيبين في جميع أمورنا { قَالَ } اللّه تعالى : { عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } ممن كان شقياً ، متعرضاً لأسبابه ، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } من العالم العلوي والسفلي ، البر والفاجر ، المؤمن والكافر ، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه ، وغمره فضله وإحسانه ، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ، ليست لكل أحد ، ولهذا قال عنها : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } المعاصي ، صغارها وكبارها . { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ } الواجبة مستحقيها { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها ، والعمل بمقتضاها ، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ، في أصول الدين وفروعه . { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } احتراز عن سائر الأنبياء ، فإن المقصود بهذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم . والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم شرط في دخولهم في الإيمان ، وأن المؤمنين به المتبعين ، هم أهل الرحمة المطلقة ، التي كتبها اللّه لهم ، ووصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية ، التي لا تقرأ ولا تكتب ، وليس عندها قبل القرآن كتاب . { ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } باسمه وصفته ، التي من أعظمها وأجلها ، ما يدعو إليه وينهى عنه . وأنه { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ } وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه . { وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } وهو : كل ما عرف قبحه في العقول والفطر ، فيأمرهم بالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الجار والمملوك ، وبذل النفع لسائر الخلق ، والصدق ، والعفاف ، والبر ، والنصيحة ، وما أشبه ذلك ، وينهى عن الشرك باللّه ، وقتل النفوس بغير حق ، والزنا ، وشرب ما يسكر العقل ، والظلم لسائر الخلق ، والكذب ، والفجور ، ونحو ذلك . فأعظم دليل يدل على أنه رسول اللّه ، ما دعا إليه وأمر به ، ونهى عنه ، وأحله وحرمه ، فإنه { يُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب ، والمناكح . { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } من المطاعم والمشارب والمناكح ، والأقوال والأفعال . { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي : ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر ، لا إصر فيه ولا أغلال ، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال . { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ } أي : عظموه وبجلوه { وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ } وهو القرآن ، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات ، ويقتدى به إذا تعارضت المقالات ، { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الظافرون بخير الدنيا والآخرة ، والناجون من شرهما ، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح . وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي ، ويعزره وينصره ، ولم يتبع النور الذي أنزل معه ، فأولئك هم الخاسرون . ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل إلى اتباعه ، وكان ربما توهم متوهم أن الحكم مقصور عليهم ، أتى بما يدل على العموم فقال : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } أي : عربيكم ، وعجميكم ، أهل الكتاب منكم ، وغيرهم . { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية ، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها : أن أرسل إليكم رسولاً عظيماً يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته ، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه ، ومن دار كرامته . { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي : لا معبود بحق إلا اللّه وحده لا شريك له ، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله ، { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي : من جملة تدابيره : الإحياء والإماتة ، التي لا يشاركه فيها أحد ، الذي جعل الموت جسراً ومعبراً يعبر منه إلى دار البقاء ، التي من آمن بها صدق الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قطعاً . { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ } إيماناً في القلب ، متضمناً لأعمال القلوب والجوارح { ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي : آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله ، { وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } في مصالحكم الدينية والدنيوية ، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالاً بعيداً . { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ } أي : جماعة { يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي : يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم ، ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم ، بقضاياهم ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 42 ] وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام ، وأن اللّه تعالى جعل منهم هداة يهدون بأمره . وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم ، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل ، المنافية للكمال المناقضة للهداية ، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم ، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية . { وَقَطَّعْنَاهُمُ } أي : قسمناهم { ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } أي : اثنتي عشرة قبيلة متعارفة متوالفة ، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة . { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } أي : طلبوا منه أن يدعو اللّه تعالى ، أن يسقيهم ماءً يشربون منه وتشرب منه مواشيهم ، وذلك لأنهم - واللّه أعلم - في محل قليل الماء . فأوحى اللّه لموسى إجابة لطلبتهم { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ } يحتمل أنه حجر معين ، ويحتمل أنه اسم جنس ، يشمل أيّ حجر كان ، فضربه { فَٱنبَجَسَتْ } أي : انفجرت من ذلك الحجر { ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } جارية سارحة . { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } أي : قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الاثنتي عشرة ، وجعل لكل منهم عيناً ، فعلموها ، واطمأنوا ، واستراحوا من التعب والمزاحمة ، والمخاصمة ، وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم . { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ } فكان يسترهم من حر الشمس { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ } وهو الحلوى ، { وَٱلسَّلْوَىٰ } وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها ، فجمع اللّه لهم بين الظلال ، والشراب ، والطعام الطيب ، من الحلوى واللحوم ، على وجه الراحة والطمأنينة . وقيل لهم : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا } حين لم يشكروا اللّه ، ولم يقوموا بما أوجب اللّه عليهم . { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فوتوها كل خير ، وعرضوها للشر والنقمة ، وهذا كان مدة لبثهم في التيه . { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ } أي : ادخلوها لتكون وطناً لكم ومسكناً ، وهي " إيلياء " { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } أي : قرية كانت كثيرة الأشجار ، غزيرة الثمار ، رغيدة العيش ، فلذلك أمرهم اللّه أن يأكلوا منها حيث شاؤوا . { وَقُولُواْ } حين تدخلون الباب : { حِطَّةٌ } أي : احطط عنا خطايانا ، واعف عنا . { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً } أي : خاضعين لربكم مستكينين لعزته ، شاكرين لنعمته ، فأمرهم بالخضوع وسؤال المغفرة ، ووعدهم على ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيۤئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } من خير الدنيا والآخرة ، فلم يمتثلوا هذا الأمر الإلهي ، بل { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أي : عصوا اللّه واستهانوا بأمره { قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ } فقالوا بدل طلب المغفرة ، وقولهم : { حِطَّةٌ } ، حبة في شعيرة ، وإذا بدلوا القول - مع يسره وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى ، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على أستاههم . { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } حين خالفوا أمر اللّه وعصوه { رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي : عذاباً شديداً ، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات السماوية . وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك { بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } أي : يخرجون من طاعة الله إلى معصيته ، من غير ضرورة ألجأتهم ولا داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامناً في نفوسهم . { وَسْئَلْهُمْ } أي : اسأل بني إسرائيل { عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } أي : على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم . { إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ } وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيداً ، فابتلاهم اللّه وامتحنهم ، فكانت الحيتان تأتيهم { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } أي : كثيرة طافية على وجه البحر . { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } أي : إذا ذهب يوم السبت { لاَ تَأْتِيهِمْ } أي : تذهب في البحر فلا يرون منها شيئاً { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه ، وأن تكون لهم هذه المحنة ، وإلا فلو لم يفسقوا ، لعافاهم اللّه ، ولما عرضهم للبلاء والشر ، فتحيلوا على الصيد ، فكانوا يحفرون لها حفراً ، وينصبون لها الشباك ، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك ، لم يأخذوها في ذلك اليوم ، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها ، وكثر فيهم ذلك ، وانقسموا ثلاث فرق : معظمهم اعتدوا وتجرؤوا ، وأعلنوا بذلك . وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم . وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم ، ونهيهم لهم ، وقالوا لهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } كأنهم يقولون : لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه ، ولم يصغ للنصيح ، بل استمر على اعتدائه وطغيانه ، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه ، إما بهلاك أو عذاب شديد . فقال الواعظون : نعظهم وننهاهم { مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ } أي : لنعذر فيهم . { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يتركون ما هم فيه من المعصية ، فلا نيأس من هدايتهم ، فربما نجع فيهم الوعظ ، وأثر فيهم اللوم . وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة ، وإقامة حجة على المأمور المنهي ، ولعل اللّه أن يهديه فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي . { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : تركوا ما ذكروا به ، واستمروا على غيهم واعتدائهم . { أَنجَيْنَا } من العذاب { ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ } وهكذا سنة اللّه في عباده ، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم الذين اعتدوا في السبت { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي : شديد { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } . وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم ، والظاهر أنهم كانوا من الناجين ، لأن اللّه خص الهلاك بالظالمين ، وهو لم يذكر أنهم ظالمون ، فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت ، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، فاكتفوا بإنكار أولئك ، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } فأبدوا من غضبهم عليهم ، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم ، وأن اللّه سيعاقبهم أشد العقوبة . { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي : قسوا فلم يلينوا ولا اتعظوا ، { قُلْنَا لَهُمْ } قولاً قدرياً : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } فانقلبوا بإذن اللّه قردة ، وأبعدهم اللّه من رحمته ، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي : أعلم إعلاماً صريحاً : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } أي : يهينهم ويذلهم . { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ } لمن عصاه ، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا . { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب إليه وأناب ، يغفر له الذنوب ، ويستر عليه العيوب ، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات ، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات ، وقد فعل اللّه بهم ما أوعدهم به ، فلا يزالون في ذل وإهانة ، تحت حكم غيرهم ، لا تقوم لهم راية ، ولا ينصر لهم عَلَمٌ . { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } أي : فرقناهم ومزقناهم في الأرض بعد ما كانوا مجتمعين ، { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ } القائمون بحقوق اللّه وحقوق عباده ، { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } أي : دون الصلاح ، إما مقتصدون ، وإما ظالمون لأنفسهم ، { وَبَلَوْنَاهُمْ } على عادتنا وسنتنا ، { بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } أي : بالعسر واليسر . { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم عليه مقيمون من الردى ، يراجعون ما خلقوا له من الهدى ، فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد ، حتى خلف من بعدهم خلف . زاد شرهم { وَرِثُواْ } بعدهم { ٱلْكِتَٰبَ } وصار المرجع فيه إليهم ، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم ، وتبذل لهم الأموال ، ليفتوا ويحكموا بغير الحق ، وفشت فيهم الرشوة . { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ } مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وهذا قول خال من الحقيقة ، فإنه ليس استغفاراً وطلباً للمغفرة على الحقيقة . فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا ، وعزموا على أن لا يعودوا ، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر ، ورشوة أخرى - يأخذوه . فاشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، قال اللّه [ تعالى ] في الإنكار عليهم ، وبيان جراءتهم : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعاً لأهوائهم ، وميلاً مع مطامعهم . { وَ } الحال أنهم قد { دَرَسُواْ مَا فِيهِ } فليس عليهم فيه إشكال ، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين ، وكانوا في أمرهم مستبصرين ، وهذا أعظم للذنب ، وأشد للوم ، وأشنع للعقوبة ، وهذا من نقص عقولهم ، وسفاهة رأيهم ، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، ولهذا قال : { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ما حرّم اللّه عليهم ، من المآكل التي تصاب ، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل اللّه ، وغير ذلك من أنواع المحرمات . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره ، وما ينبغي الإيثار عليه ، وما هو أولى بالسعي إليه ، والتقديم له على غيره ، فخاصية العقل النظر للعواقب . وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع ، يفوت نعيماً عظيماً باقياً فأنى له العقل والرأي ؟ ! ! وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم اللّه بقوله { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ } أي : يتمسكون به علماً وعملاً ، فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار التي علمها أشرف العلوم . ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب ، وأفراح الأرواح ، وصلاح الدنيا والآخرة . ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات إقامة الصلاة ، ظاهراً وباطناً ، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها وشرفها ، وكونها ميزان الإيمان ، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات . ولما كان عملهم كله إصلاحاً ، قال تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم ، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم . وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد ، وبالمنافع لا بالمضار ، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين ، فكل من كان أصلح ، كان أقرب إلى اتباعهم . ثم قال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } حين امتنعوا من قبول ما في التوراة . فألزمهم اللّه العمل ونتق فوق رؤوسهم الجبل ، فصار فوقهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } وقيل لهم : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } أي : بجد واجتهاد . { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } دراسة ومباحثة ، واتصافاً بالعمل به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } إذا فعلتم ذلك .