Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 107-110)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، يريدون به المضارة والمشاقة بين المؤمنين ، ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله ، يكون لهم حصناً عند الاحتياج إليه ، فبين تعالى خزيهم ، وأظهر سرهم فقال : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } أي : مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه { وَكُفْراً } أي : قصدهم فيه الكفر ، إذا قصد غيرهم الإيمان . { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا ، { وَإِرْصَاداً } أي : إعداداً { لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي : إعانة للمحاربين للّه ورسوله ، الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم ، وذلك كأبي عامر الراهب ، الذي كان من أهل المدينة ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة ، كفر به ، وكان متعبداً في الجاهلية ، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره ، فهلك اللعين في الطريق ، وكان على وعد وممالأة ، هو والمنافقون . فكان مما أعدوا له مسجد الضرار ، فنزل الوحي بذلك ، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يهدمه ويحرقه ، فهدم وحرق ، وصار بعد ذلك مزبلة . قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } في بنائنا إياه { إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي : الإحسان إلى الضعيف ، والعاجز والضرير . { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم . { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } أي : لا تصل في ذلك المسجد الذي بني ضراراً أبداً . فاللّه يغنيك عنه ، ولست بمضطر إليه . { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } ظهر فيه الإسلام في " قباء " وهو مسجد " قباء " أسس على إخلاص الدين للّه ، وإقامة ذكره وشعائر دينه ، وكان قديماً في هذا عريقاً فيه ، فهذا المسجد الفاضل { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } وتتعبد ، وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل ، وأهله فضلاء ، ولهذا مدحهم اللّه بقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } من الذنوب ، ويتطهروا من الأوساخ ، والنجاسات والأحداث . ومن المعلوم أن من أحب شيئاً لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب ، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث ، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه ، وكانوا مقيمين للصلاة ، محافظين على الجهاد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة شرائع الدين ، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله . وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم ، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء ، فحمدهم على صنيعهم . { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } الطهارة المعنوية ، كالتنزه من الشرك والأخلاق الرذيلة ، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث . ثم فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ } أي : على نية صالحة وإخلاص { وَرِضْوَانٍ } بأن كان موافقاً لأمره ، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة ، { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا } أي : على طرف { جُرُفٍ هَارٍ } أي : بال ، قد تداعى للانهدام ، { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } لما فيه مصالح دينهم ودنياهم . { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : شكاً وريباً ماكثاً في قلوبهم ، { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم ، ويخافوه غاية الخوف ، فبذلك يعفو اللّه عنهم ، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريباً إلى ريبهم ، ونفاقاً إلى نفاقهم . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بجميع الأشياء ، ظاهرها وباطنها ، خفيها وجليها ، وبما أسره العباد ، وأعلنوه . { حَكِيمٌ } لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى ، إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد . وفي هذه الآيات فوائد عدّة : منها : أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه ، أنه محرم ، وأنه يجب هدم مسجد الضرار ، الذي اطلع على مقصود أصحابه . ومنها : أن العمل وإن كان فاضلاً تغيره النية ، فينقلب منهياً عنه ، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى . ومنها : أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها . كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم ، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها ، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه ، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله . ومنها : النهي عن الصلاة في أماكن المعصية ، والبعد عنها ، وعن قربها . ومنها : أن المعصية تؤثر في البقاع ، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ، ونهي عن القيام فيه ، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء " حتى قال اللّه فيه : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } . ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره ، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه ، وحث على الصلاة فيه . ومنها : أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية ، أربع قواعد مهمة ، وهي : كل عمل فيه مضارة لمسلم ، أو فيه معصية للّه ، فإن المعاصي من فروع الكفر ، أو فيه تفريق بين المؤمنين ، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله ، فإنه محرم ممنوع منه ، وعكسه بعكسه . ومنها : أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات . ومنها : أنه إذا كان مسجد قباء مسجداً أسس على التقوى ، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى . ومنها : أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة ، هو العمل المؤسس على التقوى ، الموصل لعامله إلى جنات النعيم . والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال ، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين .