Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 92, Ayat: 1-21)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا قسم من الله بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم ، فقال : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } [ أي : يعم ] الخلق بظلامه ، فيسكن كلٌ إلى مأواه ومسكنه ، ويستريح العباد من الكد والتعب ، { وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } للخلق ، فاستضاؤوا بنوره ، وانتشروا في مصالحهم ، { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } إن كانت " ما " موصولة ، كان إقساماً بنفسه الكريمة الموصوفة ، بأنه خالق الذكور والإناث ، وإن كانت مصدرية ، كان قسماً بخلقه للذكر والأنثى ، وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكراً وأنثى ، ليبقى النوع ولا يضمحل ، وقاد كلاً منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة ، وجعل كلاً منهما مناسباً للآخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين . وقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } هذا [ هو ] المقسم عليه أي : إن سعيكم أيها المكلفون لمُتفاوِتٌ تفاوتاً كثيراً ، وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها والنشاط فيها ، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال ، هل هو وجه الله الأعلى الباقي ؟ فيبقى السعي له ببقائه ، وينتفع به صاحبه ، أم هي غاية مضمحلة فانية ، فيبطل السعي ببطلانها ، ويضمحل باضمحلالها ؟ وهذا كل عمل يقصد به غير وجه الله تعالى ، بهذا الوصف ، ولهذا فصَّل الله تعالى العاملين ، ووصف أعمالهم ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } [ أي ] ما أمر به من العبادات المالية ، كالزكوات ، والكفارات والنفقات ، والصدقات ، والإنفاق في وجوه الخير ، والعبادات البدنية كالصلاة ، والصوم ونحوهما . والمركّبة منهما ، كالحج والعمرة [ ونحوهما ] { وَٱتَّقَىٰ } ما نهي عنه ، من المحرمات والمعاصي ، على اختلاف أجناسها . { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي : صدّق بـ " لا إله إلا الله " وما دلّت عليه ، من جميع العقائد الدينية ، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي . { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } أي : نسهل عليه أمره ، ونجعله ميسراً له كل خير ، ميسراً له ترك كل شر ، لأنه أتى بأسباب التيسير ، فيسر الله له ذلك . { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } بما أمر به ، فترك الإنفاق الواجب والمستحب ، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله ، { وَٱسْتَغْنَىٰ } عن الله ، فترك عبوديته جانباً ، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها ، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح ، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها ، الذي تقصده وتتوجه إليه ، { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي : بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة ، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } أي : للحالة العسرة ، والخصال الذميمة ، بأن يكون ميسراً للشر أينما كان ، ومقيضاً له أفعال المعاصي ، نسأل الله العافية . { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } الذي أطغاه واستغنى به ، وبخل به إذا هلك ومات ، فإنه لا يصحبه إلا عمله الصالح . وأما ماله [ الذي لم يخرج منه الواجب ] فإنه يكون وبالاً عليه ، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئاً . { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } أي : إن الهدى المستقيم طريقه ، يوصل إلى الله ، ويدني من رضاه ، وأما الضلال ، فطرق مسدودة عن الله ، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد . { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ } ملكاً وتصرفاً ، ليس له فيهما مشارك ، فليرغب الراغبون إليه في الطلب ، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين ، { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } أي : تستعر وتتوقد ، { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ } بالخبر { وَتَوَلَّىٰ } عن الأمر . { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } بأن يكون قصده به تزكية نفسه ، وتطهيرها من الذنوب والعيوب ، قاصداً به وجه الله تعالى ، فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب ترك واجب ، كدين ونفقةٍ ونحوهما ، فإنه غير مشروع ، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء ، لأنه لا يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب . { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } أي : ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى إلا وقد كافأه بها ، وربما بقي له الفضل والمنّة على الناس ، فتمحض عبداً لله ، لأنه رقيق إحسانه وحده ، وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها ، فإنه لا بد أن يترك للناس ، ويفعل لهم ما ينقص [ إخلاصه ] . وهذه الآية ، وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، بل قد قيل إنها نزلت في سببه ، فإنه - رضي الله عنه - ما لأحد عنده من نعمة تجزى ، حتى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها ، وهي [ نعمة ] الدعوة إلى دين الإسلام ، وتعليم الهدى ودين الحق ، فإن لله ورسوله المنّة على كل أحد ، منةٌ لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة ، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل ، فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى ، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى . ولهذا قال : { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات ، والحمد لله رب العالمين .