Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 4-5)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد بـيَّنا فـيـما مضى قبل أن معنى القضاء : الفراغ من الشيء ، ثم يستعمل فـي كلّ مفروغ منه ، فتأويـل الكلام فـي هذا الـموضع : وفرغ ربك إلـى بنـي إسرائيـل فـيـما أنزل من كتابه علـى موسى صلوات الله وسلامه علـيه بإعلامه إياهم ، وإخبـاره لهم { لَتُفْسِدُنَّ فِـي الأرْضِ مَرَّتَـيْنِ } يقول : لتعصنّ الله يا معشر بنـي إسرائيـل ولتـخالفنّ أمره فـي بلاده مرّتـين { وَلَتَعْلُنَّ عَلُوًّا كَبِـيراً } يقول : ولتستكبرنّ علـى الله بـاجترائكم علـيه استكبـاراً شديداً . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك ، قال أهل التأويـل . ذكر من قال ذلك : حدثنـي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فـي قول الله : { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائيِـلَ } قال : أعلـمناهم . حدثنـي علـيّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالـح ، قال : ثنـي معاوية ، عن علـيّ ، عن ابن عبـاس ، فـي قوله : { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ } يقُول : أعلـمناهم . وقال آخرون : معنى ذلك : وقضينا علـى بنـي إسرائيـل فـي أمّ الكتاب ، وسابق علـمه . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن سعد ، قال : ثنـي أبـي ، قال : ثنـي عمي ، قال : ثنـي أبـي ، عن أبـيه ، عن ابن عبـاس ، { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ } قال : هو قضاء قضى علـيهم . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سيعد ، عن قتادة ، قوله : { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ } قضاء قضاه علـى القوم كما تسمعون . وقال آخرون : معنى ذلك : أخبرنا . ذكر من قال ذلك : حدثنا مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثنـي الـحرث ، قال : ثنا الـحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد فـي قوله : { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ } قال : أخبرنا بنـي إسرائيـل . وكلّ هذه الأقوال تعود معانـيها إلـى ما قلت فـي معنى قوله : { وَقَضَيْنا } وإن كان الذي اخترنا من التأويـل فـيه أشبه بـالصواب لإجماع القرّاء علـى قراءة قوله { لَتُفْسِدُنَّ } بـالتاء دون الـياء ، ولو كان معنى الكلام : وقضينا علـيهم فـي الكتاب ، لكانت القراءة بـالـياء أولـى منها بـالتاء ، ولكن معناه لـما كان أعلـمناهم وأخبرناهم ، وقلنا لهم ، كانت التاء أشبه وأولـى للـمخاطبة . وكان فساد بنـي إسرائيـل فـي الأرض الـمرّة الأولـى ما : حدثنـي به هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسبـاط ، عن السديّ فـي خبر ذكره عن أبـي صالـح ، وعن أبـي مالك ، عن ابن عبـاس ، وعن مرّة ، عن عبد الله أن الله عهد إلـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة { لَتُفْسِدُنَّ فِـي الأرْضِ مَرَّتَـيْنِ } فكان أوّل الفسادين : قتل زكريا ، فبعث الله علـيهم ملك النبط ، وكان يُدعى ضحابـين فبعث الـجنود ، وكانت أساورته من أهل فـارس ، فهم أولو بأس شديد ، فتـحصنت بنو إسرائيـل ، وخرج فـيهم بختنصر يتـيـماً مسكيناً ، إنـما خرج يستطعم ، وتلطف حتـى دخـل الـمدينة فأتـى مـجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلـم عدوّنا ما قُذف فـي قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا ، فخرج بختنصرحين سمع ذلك منهم ، واشتدّ القـيام علـى الـجيش ، فرجعوا ، وذلك قول الله : { فإذَا جاء وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عبـادا لنَا أُولـى بَأْسٍ شَدِيدٍ ، فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْداً مَفْعولاً } ثم إن بنـي إسرائيـل تـجهَّزوا ، فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما فـي أيديهم ، فذلك قول الله { ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَـيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِـينَ ، وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيراً } يقول : عدداً . حدثنـي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون فـي الأرض مرّتـين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله علـيهم سابور ذا الأكتاف ملكاً من ملوك فـارس ، من قتل زكريا ، وسلَّط علـيهم بختنصر من قتل يحيى . حدثنا عصام بن رواد بن الـجراح ، قال : ثنا أبـي ، قال : ثنا سفـيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن الـمعتـمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حُذيفة بن الـيـمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لَـمَّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا ، وَقَتَلُوا الأنْبِـياءَ ، بَعَثَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ مَلِكَ فـارِسَ بُخْتَنَصَّر ، وكانَ اللّهُ مَلَّكَهُ سَبْعَ مئَةِ سَنةٍ ، فَسارَ إلَـيْهِمْ حتـى دَخَـلَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَـحَها ، وَقَتَلَ عَلـي دَمِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ ألْفـاً ، ثُمَّ سَبِـي أهْلَها وَبَنِـي الأَنْبِـياءِ ، وَسَلَبَ حُلـيَّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ ، وَاسْتَـخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفـاً وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِـيَ حتـى أوْرَدَهُ بـابِلَ " قال حُذيفة : فقلت : يا رسول الله لقد كان بـيت الـمقدس عظيـماً عند الله ؟ قال : " أجَلْ بَناهُ سُلَـيْـمانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ ، وكانَ بَلاطُهُ بَلاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلاطَةً مِنْ فَضَّةٍ ، وعُمُدُهُ ذَهَبـا ، أعْطاهُ اللّهُ ذلكَ ، وسَخَّرَ لَهُ الشَّياطينَ يَأْتُونَهُ بِهِذِهِ الأشْياءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَسارَ بُخْتَنَصَّر بهذهِ الأشيْاءِ حتـى نَزَلَ بِها بـابِلَ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائيـلَ فِـي يَدَيِهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ الـمَـجُوسُ وأبْناءُ الـمَـجُوسِ ، فِـيهِمُ الأنْبِـياءُ وأبْناءُ الأنْبِـياءِ ثُمَّ إنَّ اللّهَ رَحِمَهُمْ ، فأوْحَى إلـى مَلِكِ مِنْ مُلُوكِ فـارِسَ يُقالُ لُهُ كُورَسُ ، وكانَ مُؤْمِنا ، أنْ سِرْ بَقايَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ حتـى تَسْتَنْقِذَهُمْ ، فَسارَ كُورَسُ بِبَنـي إسْرَائِيـل وحُلـيِّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ حتـى رَدَّهُ إلَـيْهِ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيـلَ مُطِيعينَ لِلّهِ مِئَةَ سَنَةِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ عادُوا فِـي الـمَعاصِي ، فَسَلَّطَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ ابْطِيانْـحُوسَ ، فَغَزَا بأْبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصَّر ، فَغَزَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ حتـى أتاهُمْ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ ، فَسَبـي أهْلَها ، وأحْرَقَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ ، وَقالَ لَهُمْ : يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ إنْ عُدْتُـمْ فِـي الـمَعاصِي عُدْنا عَلَـيْكُمْ بـالسِّبـاءِ ، فَعادُوا فِـي الـمَعاصِي ، فَسَيَّرَ اللّهُ عَلَـيْهِمُ السِّبـاءَ الثَّالِثَ مَلِكَ رُومِيَّةَ ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبـايُوس ، فَغَزَاهُمْ فِـي البَرّ والبَحْرِ ، فَسَبـاهُمْ وَسَبَى حُلِـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ ، وأحْرَقَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ بـالنِّـيرانِ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِـيّ بَـيْتِ الـمَقْذِسِ ، ويَرُدُّهُ الـمَهْدِيُّ إلـى بَـيْتِ الـمَقْدِسِ ، وَهُوَ ألْفُ سَفِـينَةٍ وسَبْعُ مِئَةٍ سَفِـينَةٍ ، يُرْسَى بِها عَلـى يافـا حتـى تُنْقَلَ إلـى بَـيْتِ الـمَقْذِسِ ، وبِها يَجْمَعُ اللّهُ الأوَّلِـينَ والآخِرِينَ " حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، قال : ثنـي ابن إسحاق ، قال : كان مـما أنزل الله علـى موسى فـي خبره عن بنـي إسرائيـل ، وفـي أحداثهم ما هم فـاعلون بعده ، فقال : { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكتابِ لَتُفْسِدُّنَّ فِـي الأرْضِ مَرَّتَـيْنِ ، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِـيراً } … إلـى قوله : { وَجَعَلْنا جَهَنَّـمَ للْكافرِينَ حَصِيراً } فكانت بنو إسرائيـل ، وفـيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله فـي ذلك متـجاوزاً عنهم ، متعطفـاً علـيهم مـحسناً إلـيهم ، فكان مـما أُنزل بهم فـي ذنوبهم ما كان قدَّم إلـيهم فـي الـخبر علـى لسان موسى مـما أنزل بهم فـي ذنوبهم . فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يُدعي صديقة ، وكان الله إذا ملَّك الـملِك علـيهم ، بعث نبـيا يسدّده ويرشده ، ويكون فـيـما بـينه وبـين الله ، ويحدث إلـيه فـي أمرهم ، لا ينزل علـيهم الكتب ، إنـما يؤمرون بـاتبـاع التوراة والأحكام التـي فـيها ، وينهونهم عن الـمعصية ، ويدعونهم إلـى ما تركوا من الطاعة فلـما ملك ذلك الـملك ، بعث الله معه شعياء ابن أمُصيا ، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشَّر بعيسى ومـحمد ، فملك ذلك الـملك بنـي إسرائيـل وبـيت الـمقدس زماناً فلـما انقضى ملكه عظمت فـيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله علـيهم سنجاريب ملك بـابل ، ومعه ستّ مئة ألف راية ، فأقبل سائراً حتـى نزل نـحو بـيت الـمقدس ، والـملك مريض فـي ساقه قرحة ، فجاء النبـيّ شعياء ، فقال له : يا ملك بنـي إسرائيـل إن سنـجاريب ملك بـابل ، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرَقوا منهم ، فكبر ذلك علـى الـملك ، فقال : يا نبـيّ الله هل أتاك وحي من الله فـيـما حدث ، فتـخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنـحاريب وجنوده ؟ فقال له النبـيّ علـيه السلام : لـم يأتنـي وحي أحدث إلـيّ فـي شأنك . فبـيناهم علـى ذلك ، أوحى الله إلـى شعياء النبـيّ : أن ائت ملك بنـي إسرائيـل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستـخـلف علـى ملكه من شاء من أهل بـيته . فأتـى النبـيّ شيعاء ملك بني إسرائيـل صديقة ، فقال له : إن ربك قد أوحى إلـيّ أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستـخـلف من شئت علـى مُلكك من أهل بـيتك ، فإنك ميت فلـما قال ذلك شعياء لصديقة ، أقبل علـى القبلة ، فصلـى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلـى الله بقلب مخـلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق . اللهمّ ربّ الأربـاب ، وإله الآلهة ، قدُّوس الـمتقدسين ، يا رحمن يا رحيـم ، الـمترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرنـي بعملـي وفعلـي وحُسن قضائي علـى بنـي إسرائيـل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلـم به من نفسي سرّي وعلانـيتـي لك وإن الرحمن استـجاب له ، وكان عبداً صالـحاً ، فأوحى الله إلـى شعياء أن يخبر صديقة الـملك أن ربه قد استـجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخَّر أجله خمس عشرة سنة ، وأنـجاه من عدوّه سنـحاريب ملك بـابل وجنوده ، فأتـى شعياء النبـيّ إلـى ذلك الـملك فأخبره بذلك ، فلـما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، وانقطع عنه الشرّ والـحزن ، وخرّ ساجداً وقال : يا إلهي وإله آبـائي ، لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي الـمُلك من تشاء ، وتنزعه مـمن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، عالـم الغيب والشهادة ، أنت الأوّل والآخر ، والظاهر والبـاطن ، وأنت ترحم وتستـجيب دعوة الـمضطرّين ، أنت الذي أحببت دعوتـي ورحمت تضرّعي فلـما رفع رأسه ، أوحى الله إلـى شعياء إن قل للـملك صديقة فـيأمر عبداً من عبـيده بـالتـينة ، فـيأتـيه بـماء التـين فـيجعله علـى قرحته فـيشفـى ، ويصبح وقد برأ ، ففعل ذلك فشفـي . وقال الـملك لشعياء النبـيّ : سل ربك أن يجعل لنا علـما بـما هو صانع بعدوّنا هذا . قال : فقال الله لشعياء النبـيّ : قل له : إنـي قد كفـيتك عدوّك ، وأنـجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتـى كلهم إلاَّ سنـحاريب وخمسة من كتابه فلـما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ علـى بـاب الـمدينة : يا ملك بنـي إسرائيـل ، إن الله قد كفـاك عدوّك فـاخرج ، فإن سنـحاريب ومن معه قد هلكوا فلـما خرج الـملك التـمس سنـحاريب ، فلـم يُوجد فـي الـموتـى ، فبعث الـملك فـي طلبه ، فأدركه الطلب فـي مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر ، فجعلوهم فـي الـجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بنـي إسرائيـل فلـما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتـى كانت العصر ، ثم قال لسنـحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألـم يقتلكم بحوله وقوّته ، ونـحن وأنتـم غافلون ؟ فقال سنـحاريب له : قد أتانـي خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التـي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلـم أطع مرشدا ، ولـم يـلقنـي فـي الشقوة إلاَّ قلة عقلـي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت علـيّ وعلـى من معي ، فقال ملك بنـي إسرائيـل : الـحمد لله ربّ العزّة الذي كفـاناكم بـما شاء ، إن ربنا لـم يُبقك ومن معك لكرامة بك علـيه ، ولكنه إنـما أبقاك ومن معك لـما هو شرّ لك ، لتزدادوا شقوة فـي الدنـيا ، وعذابـا فـي الآخرة ، ولتـخبروا من وراءكم بـما لقـيتـم من فعل ربنا ، ولتنذروا من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمُك ودم من معك أهون علـى الله من دم قراد لو قتلته . ثم إن ملك بنـي إسرائيـل أمر أمير حرسه ، فقذف فـي رقابهم الـجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بـيت الـمقدس إيـلـيا ، وكان يرزقهم فـي كلّ يوم خبزتـين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنـحاريب لـملك بنـي إسرائيـل : القتل خير مـما يفعل بنا ، فـافعل ما أمرت فنقل بهم الـملك إلـى سجن القتل ، فأوحى الله إلـى شعياء النبـيّ أن قل لـملك بنـي إسرائيـل يرسل سنـحاريب ومن معه لـينذروا من وراءهم ، ولـيكرمهم ويحملهم حتـى يبلغوا بلادهم فبلَّغ النبـيّ شعياء الـملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنـحاريب ومن معه حتـى قدموا بـابل فلـما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهَّانه وسحرته : يا ملك بـابل قد كنا نقصّ علـيك خبر ربهم وخبر نبـيهم ، ووحى الله إلـى نبـيهم ، فلـم تطعنا ، وهي أمَّة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمر سنـحاريب مـما خوّفوا ، ثم كفـاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنـحاريب بعد ذلك سبع سنـين ، ثم مات . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لـما مات سنـحاريب استـخـلف بختنصر ابن ابنه علـى ما كان علـيه جدّه يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة . ثم قبض الله ملك بنـي إسرائيـل صديقة فمرج أمر بنـي إسرائيـل وتنافسوا الـمُلك ، حتـى قتل بعضهم بعضاً علـيه ، ونبـيهم شعياء معهم لا يذعنون إلـيه ، ولا يقبلون منه فلـما فعلوا ذلك ، قال الله فـيـما بلغنا لشعياء : قم فـي قومك أُوحِ علـى لسانك فلـما قام النبـيّ أنطق الله لسانه بـالوحي فقال : يا سماء استـمعي ، ويا أرض أنصتـي ، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بنـي إسرائيـل الذين ربـاهم بنعمته ، واصطفـاهم لنفسه ، وخصَّهم بكرامته ، وفضَّلهم علـى عبـاده ، وفضلهم بـالكرامة ، وهم كالغنـم الضائعة التـي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسيرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها فلـما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كبـاشها فقتل بعضها بعضا ، حتـى لـم يبق منها عظم صحيح يجبر إلـيه آخر كسير ، فويـل لهذه الأمة الـخاطئة ، وويـل لهؤلاء القوم الـخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الـحين . إن البعير ربـما يذكر وطنه فـينتابه ، وإن الـحمار ربـما يذكر الآريّ الذي شبع علـيه فـيراجعه ، وإن الثور ربـما يذكر الـمرج الذي سمن فـيه فـينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الـحين ، وهم أولو الألبـاب والعقول ، لـيسوا ببقر ولا حمير وإنـي ضارب لهم مثلاً فلـيسمعوه : قل لهم : كيف ترون فـي أرض كانت خواء زمانا ، خربة مواتا لا عمران فـيها ، وكان لها ربّ حكيـم قويّ ، فأقبل علـيها بـالعمارة ، وكره أن تـخرب أرضه وهو قويّ ، أو يقال ضيع وهو حكيـم ، فأحاط علـيها جداراً ، وشيَّد فـيها قصراً ، وأنبط فـيها نهراً ، وصف فـيها غراسا من الزيتون والرمان والنـخيـل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولـى ذلك واستـحفظه قـيـما ذا رأي وهمّة ، حفـيظا قويا أمينا ، وتأنى طلعها وانتظرها فلـما أطلعت جاء طلعها خروبـاً ، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها ، ويقبض قـيِّـمها ، ويحرق غراسها حتـى تصير كما كانت أوّل مرّة ، خربة مواتاً لا عمران فـيها . قال الله لهم : فإن الـجدار ذمتـي ، وإن القصر شريعتـي ، وإن النهر كتابـي ، وإن القَـيِّـمَ نبِـيـي ، وإن الغراس هم ، وإن الـخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الـخبـيثة ، وإنـي قد قضيت علـيهم قضاءهم علـى أنفسهم ، وإنه مَثلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إلـيّ بذبح البقر والغنـم ، ولـيس ينالنـي اللـحم ولا آكله ، ويدّعون أن يتقرّبوا بـالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التـي حرمتها ، فأيديهم مخضوبة منها ، وثـيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لـي البـيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينـجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوّقون لـي البـيوت والـمساجد ويزينونها ، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها ، فأيّ حاجة لـي إلـى تشيـيد البـيوت ولـيست أسكنها ، وأيّ حاجة إلـى تزويق الـمساجد ولست أدخـلها ، إنـما أمرت برفعها لأذكر فـيها وأسبح فـيها ، ولتكون معلـماً لـمن أراد أن يصلـي فـيها ، يقولون : لو كان الله يقدر علـى أن يجمع ألفتنا لـجمعها ، ولو كان الله يقدر علـى أن يفقِّه قلوبنا لأفقهها ، فـاعمد إلـى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما فـي أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عوداً واحداً فلـما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحداً ، فقال الله : قل لهم : إنـي قدرت علـى ألفة العيدان الـيابسة وعلـى أن أولِّف بـينها ، فكيف لا أقدر علـى أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر علـى أن أفقِّه قلوبهم ، وأنا الذي صوّرتها يقولون : صمنا فلـم يرفع صيامنا ، وصلَّـينا فلـم تنوّر صلاتنا ، وتصدّقنا فلـم تزكّ صدقاتنا ، ودعونا بـمثل حنـين الـحمام ، وبكينا بـمثل عواء الذئب ، فـي كلّ ذلك لا نسمع ، ولا يُستـجاب لنا قال الله : فسلهم ما الذي يـمنعنـي أن أستـجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب الـمـجيبـين ، وأرحم الراحمين ؟ ألأنّ ذات يدي قلت كيف ويداي مبسوطتان بـالـخير ، أنفق كيف أشاء ، ومفـاتـيح الـخزائن عندي لا يفتـحها ولا يغلقها غيري ألا وإن رحمتـي وسعت كلّ شيء ، إنـما يتراحم الـمتراحمون بفضلها أو لأن البخـل يعترينـي أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بـالـخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سُئل لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بـالـحكمة التـي نوّرت فـي قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنـيا ، إذاً لأبصروا من حيث أتوا ، وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يـلبسونه بقول الزور ، ويتقوّون علـيه بطعمة الـحرام ؟ وكيف أنوّر صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلـى من يحاربنـي ويحادّنـي ، وينتهك مـحارمي ؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم ؟ وإنـما أوجر علـيها أهلها الـمغصوبـين أم كيف أستـجيب لهم دعاءهم وإنـما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد ؟ وإنـما أستـجيب للداعي اللـين ، وإنـما أسمع من قول الـمستضعف الـمسكين ، وإن من علامة رضاي رضا الـمساكين فلو رحموا الـمساكين ، وقرّبوا الضعفـاء ، وأنصفوا الـمظلوم ، ونصروا الـمغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدّوا إلـى الأرملة والـيتـيـم والـمسكين ، وكلّ ذي حقّ حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلـم البشر إذاً لكلـمتهم ، وإذاً لكنت نور أبصارهم ، وسمع آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم ، وإذاً لثبَّت ألسنتهم وعقولهم . يقولون لـمَّا سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويـل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآلـيف مـما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا علـى الغيب بـما توحي إلـيهم الشياطين اطلعوا ، وكلهم يستـخفـى بـالذي يقول ويسرّ ، وهم يعلـمون أنـي أعلـم غيب السموات والأرض ، وأعلـم ما يبدون وما يكتـمون وإنـي قد قضيت يوم خـلقت السموات والأرض قضاء أثبته علـى نفسي ، وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً ، لا بدّ أنه واقع ، فإن صدقوا بـما ينتحلون من علـم الغيب ، فلـيخبروك متـى أنفذه ، أو فـي أيّ زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون علـى أن يأتوا بـما يشاءون ، فلـيأتوا بـمثل القُدرة التـي بها أمضيت ، فإنـي مظهره علـى الدين كله ولو كره الـمشركون ، وإن كانوا يقدرون علـى أن يقولوا ما يشاءون فلـيؤلِّفوا مثل الـحكمة التـي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقـين ، فإنـي قد قضيت يوم خـلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة فـي الأُجراء ، وأن أحوّل الـملك فـي الرعاء ، والعزّ فـي الأذلاء ، والقوّة فـي الضعفـاء ، والغنى فـي الفقراء ، والثروة فـي الأقلاء ، والـمدائن فـي الفلوات ، والآجام فـي الـمفـاوز ، والبردى فـي الغيطان ، والعلـم فـي الـجهلة ، والـحكم فـي الأميـين ، فسلهم متـى هذا ، ومن القائم بهذا ، وعلـى يد من أسنه ، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلـمون فإنـي بـاعث لذلك نبـياً أمِّياً ، لـيس أعمى من عميان ، ولا ضالاً من ضالِّـين ، ولـيس بفظّ ولا غلـيظ ، ولا صخَّاب فـي الأسواق ، ولا متزين بـالفُحش ، ولا قوّال للـخنا ، أسدده لكل جميـل ، أهب له كلّ خـلق كريـم ، أجعل السكينة لبـاسه ، والبرّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والـحكمة معقوله ، والصدق والوفـاء طبـيعته ، والعفو والعرف خـلقه والعدل والـمعروف سيرته ، والـحقّ شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملَّته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلـم به بعد الـجهالة ، وأرفع به بعد الـخمالة ، وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلَّة ، وأغنـي به بعد العيـلة ، وأجمع به بعد الفُرقة ، وأؤلِّف به قلوبـا مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأمـما متفرّقة ، وأجعل أمته خير أمَّة أُخرجت للناس ، تأمر بـالـمعروف ، وتنهى عن الـمنكر ، توحيداً لـي ، وإيـماناً وإخلاصاً بـي ، يصلون لـي قـياماً وقعوداً ، وركوعاً وسجوداً ، يُقاتلون فـي سبـيـلـي صفوفـاً وزحوفـاً ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانـي ، ألهمهم التكبـير والتوحيد ، والتسبـيح والـحمد والـمدحة ، والتـمـجيد لـي فـي مساجدهم ومـجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهلِّلون ، ويقدّسون علـى رؤوس الأسواق ، ويطهرون لـي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثـياب فـي الأنصاف ، قربـانهم دماؤهم ، وأناجيـلهم صدورهم ، رهبـان بـاللـيـل ، لـيوث بـالنهار ، ذلك فضلـي أوتـيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيـم . فلـما فرغ نبـيهم شعياء إلـيهم من مقالته ، عدواً علـيه فـيـما بلغنـي لـيقتلوه ، فهرب منهم ، فلقـيته شجرة ، فـانفلقت فدخـل فـيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا الـمنشار فـي وسطها فنشروها حتـى قطعوها ، وقطعوه فـي وسطها . قال أبو جعفر : فعلـى القول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس من رواية السديّ ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بنـي إسرائيـل فـي الأرض الـمرّة الأولـى قتلهم زكريا نبـيّ الله ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلـى أن بعث الله علـيهم من أحلّ علـى يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوّهم علـى ربهم . وأما علـى قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم الـمرّة الأولـى ما وصف من قتلهم شعياء بن أمصيا نبـيّ الله . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلـم أخبره أن زكريا مات موتاً ولـم يُقتل ، وأن الـمقتول إنـما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سُلِّط علـى بنـي إسرائيـل فـي الـمرّة الأولـى بعد قتلهم شعياء . حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلـمة عنه . وأما إفسادهم فـي الأرض الـمرّة الآخرة ، فلا اختلاف بـين أهل العلـم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا . وقد اختلفوا فـي الذي سلَّطه الله علـيهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم فـي ذلك إن شاء الله . وأما قوله : { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِـيراً } فقد ذكرنا قول من قال : يعنـي به : استكبـارهم علـى الله بـالـجراءة علـيه ، وخلافهم أمره . وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما : حدثنـي مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِـيراً } قال : ولتعلنّ الناس علوًّا كبـيراً . حدثنا الـحارث ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد ، مثله . وأما قوله : { فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما } يعنـي : فإذا جاء وعد أولـى الـمرّتـين اللتـين يفسدون بهما فـي الأرض كما : حدثنـي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فـي قوله : { فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما } قال : إذا جاء وعد أولـى تـينك الـمرّتـين اللتـين قضينا إلـى بنـي إسرائيـل { لَتُفْسِدُنَّ فِـي الأرْضِ مَرَّتَـيْنِ } . وقوله : { بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ } ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً يعنـي تعالـى ذكره بقوله : { بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ } وجَّهنا إلـيكم ، وأرسلنا علـيكم { عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ } يقول : ذوي بطش فـي الـحروب شديد . وقوله : { فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ ، وكانَ وَعداً مَفْعُولاً } يقول : فتردّدوا بـين الدور والـمساكن ، وذهبوا وجاءوا . يقال فـيه : جاس القوم بـين الديار وجاسوا بـمعنى واحد ، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك ، رُوي الـخبر عن ابن عبـاس : حدثنـي علـيّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنـي معاوية ، عن علـيّ ، عن ابن عبـاس { فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ } قال : مشوا . وكان بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : معنى جاسوا : قتلوا ، ويستشهد لقوله ذلك ببـيت حسان : @ وَمِنَّا الَّذِي لاقـى بسَيْفِ مُـحَمَّدٍ فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْضَ العَساكِرِ @@ وجائز أن يكون معناه : فجاسوا خلال الديار ، فقتلوهم ذاهبـين وجائين ، فـيصحّ التأويلان جميعاً . ويعنـي بقوله : { وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً } وكان جوس القوم الذين نبعث علـيهم خلال ديارهم وعداً من الله لهم مفعولاً ذلك لا مـحالة ، لأنه لا يخـلف الـميعاد . ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى الله بقوله : { أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ } فـيـما كان من فعلهم فـي الـمرّة الأولـى فـي بنـي إسرائيـل حين بعثوا علـيهم ، ومن الذين بعث علـيهم فـي الـمرّة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله علـيهم فـي الـمرّة الأولـى جالوت ، وهو من أهل الـجزيرة . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن سعد ، قال : ثنا أبـي ، قال : ثنـي عمي ، قال : ثنـي أبـي ، عن أبـيه ، عن ابن عبـاس ، قوله : { فَإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ } ، وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً قال : بعث الله علـيهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب علـيهم الـخراج والذلّ ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يُقاتلون فـي سبـيـل الله ، فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بنـي إسرائيـل ، وقُتل جالوت بـيدي داود ، ورجع الله إلـى بنـي إسرائيـل ملكهم . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ ، فجاسُوا خِلالَ الدّيارِ ، وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً } قضاء قضى الله علـى القوم كما تسمعون ، فبعث علـيهم فـي الأولـى جالوت الـجزري ، فسبى وقتل ، وجاسوا خلال الديار كما قال الله ، ثم رجع القوم علـى دخن فـيهم . حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى ، قال : ثنا مـحمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أما الـمرّة الأولـى فسلَّط الله علـيهم جالوت ، حتـى بعث طالوت ومعه داود ، فقتله داود . وقال آخرون : بل بعث علـيهم فـي الـمرّة الأولـى سنـحاريب ، وقد ذكرنا بعض قائلـي ذلك فـيـما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره مـمن لـم نذكره قبل . حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم ، قال : ثنا ابن علـية ، عن أبـي الـمعلـى ، قال : سمعت سعيد بن جبـير ، يقول فـي قوله : { بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : بعث الله تبـارك وتعالـى علـيهم فـي الـمرّة الأولـى سنـحاريب من أهل أثور ونـينوى فسألت سعيداً عنها ، فزعم أنها الـموصل . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج عن ابن جريج ، قال : ثنـي يعلـى بن مسلـم بن سعيد بن جبـير ، أنه سمعه يقول : كان رجل من بنـي إسرائيـل يقرأ ، حتـى إذا بلغ { بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ } بكى وفـاضت عيناه ، وطبق الـمصحف ، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان ، ثم قال : أي ربّ أرنِـي هذا الرجل الذي جعلت هلاك بنـي إسرائيـل علـى يديه ، فأُري فـي الـمنام مسكيناً ببـابل ، يقال له بختنصر ، فـانطلق بـمال وأعبد له ، وكان رجلاً موسراً ، فقـيـل له أين تريد ؟ قال : أريد التـجارة ، حتـى نزل دارا ببـابل ، فـاستكراها لـيس فـيها أحد غيره ، فجعل يدعو الـمساكين ويـلطف بهم حتـى لـم يبق أحد ، فقال : هل بقـي مسكين غيركم ؟ قالوا : نعم ، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصر ، فقال لغلـمته : انطلقوا ، حتـى أتاه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : بختنصر ، فقال لغلـمته : احتـملوه ، فنقله إلـيه ومرّضه حتـى برأ ، فكساه وأعطاه نفقة ، ثم آذن الإسرائيـلـي بـالرحيـل ، فبكى بختنصر ، فقال الإسرائيـلـي : ما يبكيك ؟ قال : أبكي أنك فعلت بـي ما فعلت ، ولا أجد شيئاً أجزيك ، قال : بلـى شيئاً يسيراً ، إن ملكت أطعتنـي فجعل الآخر يتبعه ويقول : تستهزىء بـي ؟ ولا يـمنعه أن يعطيه ما سأله ، إلاَّ أنه يرى أنه يستهزىء به ، فبكى الإسرائيـلـي وقال : ولقد علـمت ما يـمنعك أن تعطينـي ما سألتك ، إلاَّ أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب فـي كتابه وضرب الدهر من ضربه فقال صيحوراً ، وهو ملك فـارس ببـابل : لو أنا بعثنا طلـيعة إلـى الشام قالوا : وما ضرّك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، فبعث رجلاً وأعطاه مئة ألف ، وخرج بختنصر فـي مطبخه ، لا يخرج إلاَّ لـيأكل فـي مطبخه فلـما قدم الشام ورأى صاحب الطلـيعة أكثر أرض الله فرساً ورجلاً جلداً ، كبر ذلك فـي روعه ، فلـم يسأل ، قال : فجعل بختنصر يجلس مـجالس أهل الشام فـيقول : ما يـمنعكم أن تغزوا بـابل ، فلو غزوتـموه ما دون بـيت مالها شيء ، قالوا : لا نُـحسن القتال ، قال : فلو أنكم غزوتـم ، قالوا : إنا لا نـحسن القتال ولا نقاتل حتـى أنفذ مـجالس أهل الشام ، ثم رجعوا فأخبر الطلـيعة ملكهم بـما رأى ، وجعل بختنصر يقول لفوارس الـملك : لو دعانـي الـملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرُفع ذلك إلـيه ، فدعاه فأخبره الـخبر وقال : إن فلانا لـما رأى أكثر أرض الله فرساً ورجلاً جلداً ، كبر ذلك فـي روعه ولـم يسألهم عن شيء ، وإنـي لـم أدع مـجلساً بـالشام إلاَّ جالست أهله ، فقلت لهم كذا وكذا ، وقالوا لـي كذا وكذا ، الذي ذكر سعيد بن جبـير أنه قال لهم ، قال الطلـيعة لبختنصر : إنك صحبتي لك مئة ألف وتنزع عما قلت ، قال : لو أعطيتنـي بـيت مال بابل ما نزعت ، ضرب الدهر من ضربه فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيـل إلـى الشام ، فإن وجدوا مساغاً ساغوا ، وإلاَّ انثنوا ما قدروا علـيه ، قالوا : ما ضرّك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، قال : بل الرجل الذي أخبرنـي ما أخبرنـي ، فدعا بختنصر وأرسله ، وانتـخب معه أربعة آلاف من فرسانهم ، فـانطلقوا فجاسوا خلال الديار ، فسبوا ما شاء الله ولـم يخربوا ولـم يقتلوا . ورمى في جنازة صحورا قالوا : استـخـلفوا رجلاً ، قالوا : علـى رسلكم حتـى تأتـي أصحابكم فإنهم فرسانكم ، لن ينقضوا علـيكم شيئاً ، أمهلوا فأمهلوا حتـى جاء بختنصر بـالسبـي وما معه ، فقسمه فـي الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا أحق بـالـملك من هذا ، فملَّكوه . حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنـي سلـيـمان ابن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن الـمسيب يقول : ظهر بختنصر علـى الشام ، فخرّب بـيت الـمقدس وقتلهم ، ثم أتـى دمشق ، فوجد بها دماً يغلـي علـى كبـا : أي كناسة ، فسألهم ما هذا الدم ؟ قالوا : أدركنا آبـاءنا علـى هذا وكلـما ظهر علـيه الكبـا ظهر ، قال : فقتل علـى ذلك الدم سبعين ألفـاً من الـمسلـمين وغيرهم ، فسكن . وقال آخرون : يعنـي بذلك قوما من أهل فـارس ، قالوا : ولـم يكن فـي الـمرّة الأولـى قتال . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد { فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خلالَ الدّيارِ } قال : من جاءهم من فـارس يتـجسسون أخبـارهم ، ويسمعون حديثهم ، معهم بختنصر ، فوعى أحاديثهم من بـين أصحابه ، ثم رجعت فـارس ولـم يكن قتال ، ونُصرت علـيهم بنو إسرائيـل ، فهذا وعد الأولـى . حدثنـي الـحرث ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد { بَعَثْنَا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ } جند جاءهم من فـارس يتـجسسون أخبـارهم ، ثم ذكر نـحوه . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج ، عن ابن جريج ، عن مـجاهد فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال : ذلك أي من جاءهم من فـارس ، ثم ذكر نـحوه .