Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 10-10)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم : { أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصحَابَ الكَهْفِ والرَّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـاً } حين أوى الفتـية أصحاب الكهف إلـى كهف الـجبل ، هربـاً بدينهم إلـى الله ، فقالوا إذ أووه : { رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } رغبة منهم إلـى ربهم ، فـي أن يرزقهم من عنده رحمة . وقوله : { وَهَيِّىءْ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَداً } يقول : وقالوا : يسِّر لنا بـما نبتغي وما نلتـمس من رضاك والهرب من الكفر بك ، ومن عبـادة الأوثان التـي يدعونا إلـيها قومنا ، { رَشَداً } يقول : سَداداً إلـى العمل بـالذي تـحبّ . وقد اختلف أهل العلـم فـي سبب مصير هؤلاء الفِتـية إلـى الكهف الذي ذكره الله فـي كتابه ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ، أنهم كانوا مسلـمين علـى دين عيسى ، وكان لهم ملك عابد وَثَن ، دعاهم إلـى عبـادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم ، أو يقتلهم ، فـاستـخفَوا منه فـي الكهف . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الـحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو فـي قوله : { أصحَابَ الكَهْفِ والرَّقِـيـمِ } كانت الفِتـية علـى دين عيسى علـى الإسلام ، وكان ملكهم كافراً ، وقد أخرج لهم صنـما ، فأبَوا ، وقالوا : { رَبُّنا رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهه إلها لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطاً } قال : فـاعتزلوا عن قومهم لعبـادة الله ، فقال أحدهم : إنه كان لأبـي كهف يأوي فـيه غنـمه ، فـانطلقوا بنا نكن فـيه ، فدخـلوه ، وفُقدوا فـي ذلك الزمان فطُلبوا ، فقـيـل : دخـلوا هذا الكهف ، فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابـاً أشدّ من أن نردم علـيهم هذا الكهف ، فبنوه علـيهم ثم ردموه . ثم إن الله بعث علـيهم ملكاً علـى دين عيسى ، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم علـيهم ، فقال بعضهم لبعض : { كَمْ لَبِثْتُـمْ } ؟ ف { قالُوا لَبِثنْا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ … } حتـى بلغ فـابْعَثُوا أحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ وكان ورِق ذلك الزمان كبـاراً ، فأرسلوا أحدهم يأتـيهم بطعام وشراب فلـما ذهب لـيخرج ، رأى علـى بـاب الكهف شيئاً أنكره فأراد أن يرجع ، ثم مضى حتـى دخـل الـمدينة ، فأنكر ما رأى ، ثم أخرج درهماً ، فنظروا إلـيه فأنكروه ، وأنكروا الدرهم ، وقالوا : من أين لك هذا ؟ هذا من ورق غير هذا الزمان ، واجتـمعوا علـيه يسألونه ، فلـم يزالوا به حتـى انطلقوا به إلـى ملكهم ، وكان لقومهم لوح يكتبون فـيه ما يكون ، فنظروا فـي ذلك اللوح ، وسأله الـملك ، فأخبره بأمره ، ونظروا فـي الكتاب متـى فقد ، فـاستبشروا به وبأصحابه ، وقـيـل له : انطلق بنا فأرنا أصحابك ، فـانطلق وانطلقوا معه ، لـيريهم ، فدخـل قبل القوم ، فضرب علـى آذانهم ، فقال الذين غلبوا علـى أمرهم : { لَنَتَّـخِذَنَّ عَلَـيْهِمْ مَسْجِداً } حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، عن ابن إسحاق ، قال : مَرِج أمر أهل الإنـجيـل وعظُمت فـيهم الـخطايا وطغت فـيهم الـملوك ، حتـى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفـيهم علـى ذلك بقايا علـى أمر عيسى ابن مريـم ، متـمسكون بعبـادة الله وتوحيده ، فكان مـمن فعل ذلك من ملوكهم ، ملك من الروم يقال له : دَقْـيَنوس ، كان قد عبد الأصنام ، وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه فـي ذلك مـمن أقام علـى دين عيسى ابن مريـم . كان ينزل فـي قُرى الروم ، فلا يترك فـي قرية ينزلها أحداً مـمن يدين بدين عيسى ابن مريـم إلا قتله ، حتـى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتـى نزل دقـينوس مدينة الفِتـية أصحاب الكهف فلـما نزلها دقـينوس كبر ذلك علـى أهل الإيـمان ، فـاستـخْفَوا منه وهربوا فـي كلّ وجه . وكان دقـينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيـمان فـيُجمعوا له ، واتـخذ شُرَطاً من الكفَّـار من أهلها ، فجعلوا يتبعون أهل الإيـمان فـي أماكنهم التـي يستـخفون فـيها ، فـيستـخرجونهم إلـى دقـينوس ، فقدمهم إلـى الـمـجامع التـي يذبح فـيها للطواغيت فـيخيرهم بـين القتل ، وبـين عبـادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب فـي الـحياة ويُفْظَع بـالقتل فـيَفتِتن ، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فـيقتل فلـما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيـمان بـالله ، جعلوا يُسْلـمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فـيقتلون ويقطعون ، ثم يربط ما قطع من أجسادهم ، فـيعلَّق علـى سور الـمدينة من نواحيها كلها ، وعلـى كلّ بـاب من أبوابها ، حتـى عظمت الفتنة علـى أهل الإيـمان ، فمنهم من كفر فُترك ، ومنهم من صُلب علـى دينه فقُتل فلـما رأى ذلك الفِتـية أصحاب الكهف ، حزنوا حزناً شديداً ، حتـى تغيرت ألوانهم ، وَنـحِلت أجسامهم ، واستعانوا بـالصلاة والصيام والصدقة ، والتـحميد ، والتسبـيح ، والتهلـيـل ، والتكبـير ، والبكاء ، والتضرّع إلـى الله ، وكانوا فتـية أحداثاً أحراراً من أبناء أشراف الروم . فحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد ، قال : لقد حُدّثت أنه كان علـى بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورِق . قال ابن عبـاس : فكانوا كذلك فـي عبـادة الله لـيـلهم ونهارهم ، يبكون إلـى الله ، ويستغيثونه ، وكانوا ثمانـية نفر مَكْسِلـمينا ، وكان أكبرهم ، وهو الذي كلَّـم الـملك عنهم ، ومَـحْسيـميـلنـينا ، ويَـملـيخا ، ومَرْطوس ، وكشوطوش ، وبـيرونس ، ودينـموس ، ويطونس قالوس فلـما أجمع دقـينوس أن يجمع أهل القرية لعبـادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، بكوا إلـى الله وتضرّعوا إلـيه ، وجعلوا يقولون : اللهمّ ربّ السموات والأرض ، لن ندعو من دونك إلهاً { لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطاً } اكشف عن عبـادك الـمؤمنـين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم علـى عبـادك الذين آمنوا بك ، ومِنُعوا عبـادتك إلا سرّاً ، مستـخفِـينَ بذلك ، حتـى يعبدوك علانـية . فبـينـما هم علـى ذلك ، عرفهم عُرفـاؤهم من الكفـار ، مـمن كان يجمع أهل الـمدينة لعبـادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، وذكروا أمرهم ، وكانوا قد خَـلَوا فـي مُصَلًّـى لهم يعبدون الله فـيه ، ويتضرّعون إلـيه ، ويتوقَّعون أن يُذْكَروا لدقـينوس ، فـانطلق أولئك الكفرة حتـى دخـلوا علـيهم مُصَلاَّهم ، فوجدوهم سجوداً علـى وجوههم يتضرّعون ، ويبكون ، ويرغبون إلـى الله أن ينـجيهم من دقـينوس وفتنته فلـما رآهم أولئك الكفرة من عُرفـائهم قالوا لهم : ما خَـلَّفكم عن أمر الـملك ؟ انطلقوا إلـيه ثم خرجوا من عندهم ، فرفعوا أمرهم إلـى دقـينوس ، وقالوا : تـجمع الناس للذبح لآلهتك ، وهؤلاء فِتـية من أهل بـيتك ، يسخَرون منك ، ويستهزئون بك ، ويعصُون أمرك ، ويتركون آلهتك ، ويَعمِدون إلـى مُصَلَـى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريـم يصلون فـيه ، ويتضرّعون إلـى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى ، فلـم تتركهم يصنعون هذا وهم بـين ظَهرانْـي سلطانك ومُلكك ، وهم ثمانـية نفر : رئيسهم مكسلـمينا ، وهم أبناء عظماء الـمدينة ؟ فلـما قالوا ذلك لدقـينوس ، بعث إلـيهم ، فأتـى بهم من الـمصلَّـى الذي كانوا فـيه تفـيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم فـي التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التـي تُعبد فـي الأرض ، وأن تـجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم ، ولـمن حضر منَّا من الناس ؟ اختاروا منـي : إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس ، وإما أن أقتلكم فقال مكسلـمينا : إن لنا إلها نبعده ملأ السموات والأرض عَظَمتُه ، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً ، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إلـيه أبداً ، ولكنا نعبد الله ربنا ، له الـحمد والتكبـير والتسبـيح من أنفسنا خالصاً أبداً ، إياه نعبد ، وإياه نسأل النـجاة والـخير ، فأما الطواغيت وعبـادتها ، فلن نقرّ بها أبداً ، ولسنا بكائنـين عُبَّـاداً للشياطين ، ولا جاعلـي أنفسنا وأجسادنا عُبـاداً لها ، بعد إذ هدانا الله له رهبتَك ، أو فَرَقاً من عبودتك ، اصنع بنا ما بدا لك ثم قال أصحاب مكسلـمينا لدقـينوس مثل ما قال . قال : فلـما قالوا ذلك له ، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان علـيهم من لبوس عظمائهم ، ثم قال : أما إذ فعلتـم ما فعلتـم فإنـي سأؤخركم أن تكونوا من أهل مـملكتـي وبطانتـي ، وأهل بلادي ، وسأفرُغ لكم ، فأنـجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يـمنعنـي أن أعجِّل ذلك لكم إلا أنـي أراكم فتـيانا حديثة أسنانُكم ، ولا أحبّ أن أهلككم حتـى أستأنَـي بكم ، وأنا جاعل لكم أجلاً تَذكرون فـيه ، وتراجعون عقولكم . ثم أمر بحلـية كانت علـيهم من ذهب وفضة ، فُنزعت عنهم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده . وانطلق دقـينوس مكانه إلـى مدينة سوى مدينتهم التـي هم بها قريبـاً منها لبعض ما يريد من أمره . فلـما رأى الفِتـية دقـينوس قد خرج من مدينتهم بـادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم ، فأتـمروا بـينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بـيت أبـيه ، فـيتصدّقوا منها ، ويتزوّدوا بـما بقـي ، ثم ينطلقوا إلـى كهف قريب من الـمدينة فـي جبل يقال له : بنـجلوس فـيـمكثوا فـيه ، ويعبدوا الله حتـى إذا رجع دقـينوس أتوه فقاموا بـين يديه ، فـيصنع بهم ما شاء . فلـما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كلّ فتـى منهم ، فأخذ من بـيت أبـيه نفقة ، فتصدّق منها ، وانطلقوا بـما بقـي معهم من نفقتهم ، واتبعهم كلّب لهم ، حتـى أتوا ذلك الكهف الذي فـي ذلك الـجبل ، فلبثوا فـيه لـيس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبـيح والتكبـير والتـحميد ، ابتغاء وجه الله تعالـى ، والـحياة التـي لا تنقطع ، وجعلوا نفقتهم إلـى فتـى منهم يُقال له يـملـيخا ، فكان علـى طعامهم ، يبتاع لهم أرزاقهم من الـمدينة سرّا من أهلها وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم ، فكان يـملـيخا يصنع ذلك ، فإذا دخـل الـمدينة يضع ثـيابـاً كانت علـيه حساناً ، ويأخذ ثـيابـاً كثـياب الـمساكين الذين يستطعمون فـيها ، ثم يأخذ وَرِقَه ، فـينطلق إلـى الـمدينة فـيشتري لهم طعاماً وشرابـاً ، ويتسمَّع ويتـجسَّس لهم الـخبر ، هل ذكر هو وأصحابه بشيء من ملإ الـمدينة ، ثم يرجع إلـى أصحابه بطعامهم وشرابهم ، ويخبرهم بـما سمع من أخبـار الناس ، فلبثوا بذلك ما لبثوا . ثم قدم دقـينوس الـجبَّـار الـمدينة التـي منها خرج إلـى مدينته ، وهي مدينة أَفْسوس فأمر عظماء أهلها ، فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيـمان ، فتـخبأوا من كلّ مخبأ وكان يـملـيخا بـالـمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم ، فرجع إلـى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قلـيـل ، فأخبرهم أن الـجبـار دقـينوس قد دخـل الـمدينة ، وأنهم قد ذُكروا وافتقدوا والتـمسوا مع عظماء أهل الـمدينة لـيذبحوا للطواغيت فلـما أخبرهم بذلك ، فزعوا فزعاً شديداً ، ووقعوا سجوداً علـى وجوههم يدعون الله ، ويتضرّعون إلـيه ، ويتعوّذون به من الفتنة ثم إن يـملـيخا قال لهم : يا إخوتاه ، ارفعوا رؤوسكم ، فـاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به ، وتوكلوا علـى ربكم فرفعوا رؤوسهم ، وأعينهم تفـيض من الدمع حذراً وتـخوّفـاً علـى أنفسهم ، فطعموا منه ، وذلك مع غروب الشمس ، ثم جلسوا يتـحدثون ويتدارسون ، ويذكر بعضهم بعضاً علـى حزن منهم ، مشفقـين مـما أتاهم به صاحبهم من الـخبر . فبـيناهم علـى ذلك ، إذ ضرب الله علـى آذانهم فـي الكهف سنـين عدداً ، وكلبهم بـاسط ذراعيه ببـاب الكهف ، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون ، مصدّقون بـالوعد ، ونفقتهم موضوعة عندهم فلـما كان الغد فقدهم دقـينوس ، فـالتـمسهم فلـم يجدهم ، فقال لعظماء أهل الـمدينة : لقد ساءنـي شأن هؤلاء الفتـية الذين ذهبوا . لقد كانوا يظنون أن بـي غضبـاً علـيهم فـيـما صنعوا فـي أوّل شأنهم ، لـجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأجهل علـيهم فـي نفسي ، ولا أؤاخذ أحداً منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتـي ، ولو فعلوا لتركتهم ، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم . فقال له عظماء أهل الـمدينة : ما أنت بحقـيق أن ترحم قوما فجرة مرَدة عُصاة ، مقـيـمين علـى ظلـمهم ومعصيتهم ، وقد كنتَ أجَّلتهم أجلاً ، وأخَّرتهم عن العقوبة التـي أصبت بها غيرهم ، ولو شاؤوا لرجعوا فـي ذلك الأجل ، ولكنهم لـم يتوبوا ولـم ينزعوا ولـم يندموا علـى ما فعلوا ، وكانوا منذ انطلقت يبذّرون أموالهم بـالـمدينة فلـما علـموا بقدومك فرّوا فلـم يُروا بعد . فإن أحببت أن تُؤْتَـى بهم ، فأرسل إلـى آبـائهم فـامتـحنهم ، واشدُد علـيهم يدُلوك علـيهم ، فإنهم مختبئون منك . فلـما قالوا ذلك لدقـينوس الـجبـار ، غضب غضبـاً شديداً ، ثم أرسل إلـى آبـائهم ، فأتـى بهم فسألهم عنهم وقال : أخبرونـي عن أبنائكم الـمردة الذين عصوا أمري ، وتركوا آلهتـي ائتونـي بهم ، وأنبئونـي بـمكانهم فقال له آبـاؤهم : أما نـحن فلـم نعص أمرك ولـم نـخالفك . قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم ، فلـم تقتلنا فـي قوم مَرَدة ، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها فـي أسواق الـمدينة ، ثم انطلقوا ، فـارتقوا فـي جبل يدعى بنـجلوس ، وبـينه وبـين الـمدينة أرض بعيدة هَربـاً منك ؟ فلـما قالوا ذلك خـلَّـى سبـيـلهم ، وجعل يأتـمر ماذا يصنع بـالفِتـية ، فألقـى الله عزّ وجلّ فـي نفسه أن يأمر بـالكهف فـيُسدّ علـيهم كرامة من الله ، أراد أن يكرمهم ، ويكرم أجساد الفتـية ، فلا يجول ، ولا يطوف بها شيء ، وأراد أن يحيـيهم ، ويجعلهم آية لأمة تُستـخـلف من بعدهم ، وأن يبـين لهم أن الساعة آتـية لا ريب فـيها ، وأن الله يبعث من فـي القبور . فأمر دقـينوس بـالكهف أن يسدّ علـيهم ، وقال : دعوا هؤلاء الفتـية الـمَرَدة الذين تركوا آلهتـي فلـيـموتوا كما هم فـي الكهف عطشاً وجوعاً ، ولـيكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ففعل بهم ذلك عدوّ الله ، وهو يظنّ أنهم أيقاظ يعلـمون ما يصنع بهم ، وقد تَوَّفـى الله أرواحهم وفـاة النوم ، وكلبهم بـاسط ذراعيه ببـاب الكهف ، قد غَشَّاه الله ما غشاهم ، يُقلَّبون ذات الـيـمين وذات الشمال . ثم إن رجلـين مؤمنـين كانا فـي بـيت الـملك دقـينوس يكتـمان إيـمانهما : اسم أحدهما بـيدروس ، واسم الآخر : روناس ، فأتـمرا أن يكتبـا شأن الفتـية أصحاب الكهف ، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبـائهم ، وقصة خبرهم فـي لوحين من رَصاص ، ثم يصنعا له تابوتا من نـحاس ، ثم يجعلا اللوحين فـيه ، ثم يكتبـا علـيه فـي فم الكهف بـين ظهرانـي البنـيان ، ويختـما علـى التابوت بخاتـمهما ، وقالا : لعلّ الله أن يُظْهر علـى هؤلاء الفتـية قوماً مؤمنـين قبل يوم القـيامة ، فـيعلـم من فتـح علـيهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ، ففعلا ثم بنـيا علـيه فـي البنـيان ، فبقـي دقـينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا ، ثم هلك دقـينوس والقرن الذي كانوا معه ، وقرون بعده كثـيرة ، وخـلفت الـخـلوف بعد الـخـلوف . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثـير ، عن مـجاهد ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم ، وأهل شرفهم ، فخرجوا فـاجتـمعوا وراء الـمدينة علـى غير ميعاد ، فقال رجل منهم هو أسنهم : إنـي لأجد فـي نفسي شيئاً ما أظنّ أن أحداً يجده ، قالوا : ماذا تـجد ؟ قال : أجد فـي نفسي أن ربـي ربّ السموات والأرض ، وقالوا : نـحن نـجد . فقاموا جميعاً ، فقالوا : { رَبُّنا رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُو مِنْ دُونِهِ إلَهاً لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطاً } ، فـاجتـمعوا أن يدخـلوا الكهف ، وعلـى مدينتهم إذ ذاك جبـار يقال له دقـينوس ، فلبثوا فـي الكهف ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعاً رقداً . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد ، عن عبد الله بن عبـيد بن عمير ، قال : كان أصحاب الكهف فتـيانا ملوكا مُطَوَّقـين مُسَوَّرين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم ، فخرجوا فـي عيد لهم عظيـم فـي زيّ وموكب ، وأخرجوا معهم آلهتـم التـي يعبدون . وقذف الله فـي قلوب الفتـية الإيـمان فآمنوا ، وأخفـى كلّ واحد منهم الإيـمان عن صاحبه ، فقالوا فـي أنفسهم من غير أن يظهر إيـمان بعضهم لبعض : نـخرج من بـين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم . فخرج شاب منهم حتـى انتهى إلـى ظلّ شجرة ، فجلس فـيه ، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده ، فرجا أن يكون علـى مثل أمره من غير أن يظهر ذلك منه ، فجاء حتـى جلس إلـيه ، ثم خرج الآخرون ، فجاؤوا حتـى جلسوا إلـيهما ، فـاجتـمعوا ، فقال بعضهم : ما جمعَكم ؟ وقال آخر : بل ما جمعكم ؟ وكلّ يكتـم إيـمانه من صاحبه مخافة علـى نفسه ، ثم قالوا : لـيخرج منكم فَتَـيان ، فـيخْـلُوَا ، فـيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما علـى صاحبه ، ثم يفشي كلّ واحد منهما لصاحبه أمره ، فإنا نرجو أن نكون علـى أمر واحد . فخرج فَتَـيان منهم فتواثقا ، ثم تكلـما ، فذكر كلّ واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشَرين إلـى أصحابهما قد اتفقا علـى أمر واحد ، فإذا هم جميعا علـى الإيـمان ، وإذا كهف فـي الـجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : ائتوا إلـى الكهف { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيِّىءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقاً } فدخـلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ، فجعله الله علـيهم رقدة واحدة ، فناموا ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعاً . قال : وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد ، فعمى الله علـيهم آثارهم وكهفهم . فلـما لـم يقدروا علـيهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم فـي لوح : فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا ، فَقَدناهم فـي عيد كذا وكذا فـي شهر كذا وكذا فـي سنة كذا وكذا ، فـي مـملكة فلان ابن فلان ورفعوا اللوح فـي الـخزانة . فمات ذلك الـملك وغلب علـيهم ملك مسلـم مع الـمسلـمين ، وجاء قرن بعد قرن ، فلبثوا فـي كهفهم ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعاً . وقال آخرون : بل كان مصيرهم إلـى الكهف هربـاً من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى علـى صاحب لهم أنه جناها . ذكر من قال ذلك : حدثنا الـحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرنـي إسماعيـل بن شروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : جاء حواريّ عيسى ابن مريـم إلـى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخـلها ، فقـيـل له : إن علـى بـابها صنـماً لا يدخـلها أحد إلاَّ سجد له . فكره أن يدخـلها ، فأتـى حَمَّاماً ، فكان فـيه قريبـاً من تلك الـمدينة ، فكان يعمل فـيه يؤاجر نفسه من صاحب الـحمام . ورأى صاحب الـحمام فـي حمامه البركة ودرّ علـيه الرزق ، فجعل يعرض علـيه الإسلام ، وجعل يسترسل إلـيه ، وعلقه فتـية من أهل الـمدينة ، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة ، حتـى آمنوا به وصدّقوه ، وكانوا علـى مثل حاله فـي حُسْن الهيئة . وكان يشترط علـى صاحب الـحمَّام أن اللـيـل لـي لا تـحول بـينـي وبـين الصلاة إذا حضرت فكان علـى ذلك حتـى جاء ابن الـملك بـامرأة ، فدخـل بها الـحمام ، فعيَّره الـحواريّ ، فقال : أنت ابن الـملك ، وتدخـل معك هذه النكداء ؟ فـاستـحيا ، فذهب فرجع مرّة أخرى ، فقال له مثل ذلك ، فسبه وانتهره ولـم يـلتفت حتـى دخـل ودخـلت معه الـمرأة ، فماتا فـي الـحمام جميعاً . فأتـى الـملك ، فقـيـل له : قتل صاحب الـحمام ابنك فـالتُـمس ، فلـم يقدر علـيه هرَبـاً ، قال : من كان يصحبه ؟ فسموا الفتـية ، فـالتُـمسوا ، فخرجوا من الـمدينة ، فمرّوا بصاحب لهم فـي زرع له ، وهو علـى مثل أمرهم ، فذكروا أنهم التُـمسوا ، فـانطلق معهم الكلب ، حتـى أواهم اللـيـل إلـى الكهف ، فدخـلوه ، فقالوا : نبـيت ههنا اللـيـلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم ، فضرب علـى آذانهم . فخرج الـملك فـي أصحابه يتبعونهم حتـى وجدوهم قد دخـلوا الكهف فكلـما أراد رجل أن يدخـل أُرعب ، فلـم يطق أحد أن يدخـله ، فقال قائل : ألـيس لو كنت قدرت علـيهم قتلتهم ؟ قال : بلـى قال : فـابن علـيهم بـاب الكهف ، ودعهم فـيه يـموتوا عطشاً وجوعاً ، ففعل .