Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 19-20)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالـى ذكره : كما أرقدنا هؤلاء الفتـية فـي الكهف ، فحفظناهم من وصول واصل إلـيهم ، وعين ناظر أن ينظر إلـيهم ، وحفظنا أجسامهم من البلاء علـى طول الزمان ، وثـيابهم من العفن علـى مرّ الأيام بقدرتنا فكذلك بعثناهم من رقدتهم ، وأيقظناهم من نومهم ، لنعرّفهم عظيـم سلطاننا ، وعجيب فعلنا فـي خـلقنا ، ولـيزدادوا بصيرة فـي أمرهم الذي هم علـيه من براءتهم من عبـادة الآلهة ، وإخلاصهم لعبـادة الله وحده لا شريك له ، إذا تبـيَّنوا طول الزمان علـيهم ، وهم بهيئتهم حين رقدوا . وقوله : { لِـيَتَساءَلُوا بَـيْنَهُمْ } يقول : لـيسأل بعضهم بعضا { قالَ قائلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُـمْ } يقول عزّ ذكره : فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحابه : { كَمْ لبثْتـمْ } وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم { قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } يقول : فأجابه الآخرون فقالوا : لَبِثْنا يوماً أو بعض يوم . ظناً منهم أن ذلك كذلك كان ، فقال الآخرون : { رَبُّكُمْ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثْتُـمْ } فسلِّـموا العلـم إلـى الله . وقوله : { فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ } يعنـي مدينتهم التـي خرجوا منها هِرابـاً ، التـي تسمى أفسوس { فَلْـيَنْظُرْ أيُّها أزْكَى طَعاماً فَلْـيأَتِكُمْ بِرزْقٍ مِنْهُ } ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جياعا ، فلذلك طلبوا الطعام . ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله ذكر أنهم بعثوا من رقدتهم حين بعثوا منها : حدثنا الـحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرنـي إسماعيـل بن بشروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : إنهم غبروا ، يعنـي الفتـية من أصحاب الكهف بعد ما بنى علـيهم بـاب الكهف زمانا بعد زمان ، ثم إن راعياً أدركه الـمطر عند الكهف ، فقال : لو فتـحت هذا الكهف وأدخـلت غنـمي من الـمطر ، فلـم يزل يعالـجه حتـى فتـح ما أدخـله فـيه ، وردّ إلـيهم أرواحهم فـي أجسامهم من الغد حين أصبحوا ، فبعثوا أحدهم بورق يشتري طعاما فلـما أتـى بـاب مدينتهم ، رأى شيئاً يُنكره ، حتـى دخـل علـى رجل فقال : بعنـي بهذه الدراهم طعاماً ، فقال : ومن أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لـي أمس ، فآوانا اللـيـل ، ثم أصبحوا ، فأرسلونـي ، فقال : هذه الدراهم كانت علـى عهد مُلك فلان ، فأنـيَّ لك بها ؟ فرفعه إلـى الـملك ، وكان ملكاً صالـحاً ، فقال : من أين لك هذه الوَرق ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لـي أمس ، حتـى أدركَنا اللـيـل فـي كهف كذا وكذا ، ثم أمرونـي أن أشتري لهم طعاماً قال : وأين أصحابك ؟ قال : فـي الكهف قال : فـانطلقوا معه حتـى أتوا بـاب الكهف ، فقال : دعونـي أدخـل علـى أصحابـي قبلكم فلـما رأوه ، ودنا منهم ضُرِب علـى أذنه وآذانهم ، فجعلوا كلـما دخـل رجل أرعب ، فلـم يقدروا علـى أن يدخـلوا علـيهم ، فبنوا عندهم كنـيسة ، اتـخذوها مسجداً يصلون فـيه . حدثناالـحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام ، فتعوّذوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم ، حتـى انتهوا إلـى الكهف ، فضَرَب الله علـى سمعهم ، فلبثوا دهراً طويلاً ، حتـى هَلكت أمتهم ، وجاءت أمَّة مسلـمة ، وكان ملكهم مسلـماً ، فـاختلفوا فـي الروح والـجسد ، فقال قائل : يبعث الروح والـجسد جميعاً وقال قائل : يُبعث الروح ، فأما الـجسد فتأكله الأرض ، فلا يكون شيئاً فشقّ علـى ملكهم اختلافهم ، فـانطلق فلبس الـمُسُوح ، وجلس علـى الرَّماد ، ثم دعا الله تعالـى فقال : أي ربّ ، قد ترى اختلاف هؤلاء ، فـابعث لهم آية تبـين لهم ، فبعث الله أصحاب الكهف ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً ، فدخـل السوق ، فجعل يُنكر الوجوه ، ويعرف الطرق ، ويرى الإيـمان بـالـمدينة ظاهرا ، فـانطلق وهو مستـخف حتـى أتـى رجلاً يشتري منه طعاماً فلـما نظر الرجل إلـى الوَرِق أنكرها ، قال : حسبت أنه قال : كأنها أخفـاف الرُّبَع ، يعنـي الإبل الصغار ، فقال له الفتـى : ألـيس ملككم فلانا ؟ قال : بل ملكنا فلان فلـم يزل ذلك بـينهما حتـى رفعه إلـى الـملك ، فسأله ، فأخبره الفتـى خبر أصحابه ، فبعث الـملك فـي الناس ، فجمعهم ، فقال : إنكم قد اختلفتـم فـي الروح والـجسد ، وإن الله قد بعث لكم آية ، فهذا رجل من قوم فلان ، يعنـي ملكهم الذي مضى ، فقال الفتـى : انطلقوا بـي إلـى أصحابـي فركب الـملك ، وركب معه الناس حتـى انتهوا إلـى الكهف فقال الفتـى دعونـي أدخـل إلـى أصحابـي ، فلـما أبصرهم ضُرِب علـى أذنه وعلـى آذانهم فلـما استبطؤوه دخـل الـملك ، ودخـل الناس معه ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً ، غير أنها لا أرواح فـيها ، فقال الـملك : هذه آية بعثها الله لكم . قال قتادة : وعن ابن عبـاس ، كان قد غزا مع حبـيب بن مسلـمة ، فمرّوا بـالكهف ، فإذا فـيه عظام ، فقال رجل : هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال ابن عبـاس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فـيـما ذكر من حديث أصحاب الكهف ، قال : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالـح يقال له تـيذوسيس فلـما ملك بقـي في ملكه ثمانـياً وستـين سنة ، فتـحزّب الناس فـي مُلكه ، فكانوا أحزاباً ، فمنهم من يؤمن بـالله ، ويعلـم أنّ الساعة حقّ ، ومنهم من يكذّب ، فكبر ذلك علـى الـملك الصالـح تـيذوسيس ، وبكى إلـى الله وتضرّع إلـيه ، وحزن حزناً شديداً لـما رأى أهل البـاطل يزيدون ويظهرون علـى أهل الـحقّ ويقولون : لا حياة إلا الـحياة الدنـيا ، وإنـما تُبعث النفوس ، ولا تُبعث الأجساد ، ونسُوا ما فـي الكتاب فجعل تـيذوسيس يرسل إلـى من يظنّ فـيه خيراً ، وأنهم أئمة فـي الـحقّ ، فجعلوا يكذّبون بـالساعة ، حتـى كادوا أن يُحوّلوا الناس عن الـحقّ ومِلة الـحَواريـين فلـما رأى ذلك الـملك الصالـح تـيذوسيس ، دخـل بـيته فأغلقه علـيه ، ولبس مِسْحاً وجعل تـحته رماداً ، ثم جلس علـيه ، فدأب ذلك لـيـله ونهاره زماناً يتضرّع إلـى الله ، ويبكي إلـيه مـما يرى فـيه الناس ثم إن الرحمن الرحيـم الذي يكره هلكة العبـاد ، أراد أن يَظْهر علـى الفتـية أصحاب الكهف ، ويبـين للناس شأنهم ، ويجعلهم آية لهم ، وحجة علـيهم ، لـيعلـموا أن الساعة آتـية لا ريب فـيها ، وأن يستـجيب لعبده الصالـح تـيذوسيس ، ويتـمّ نعمته علـيه ، فلا ينزع منه مُلكه ، ولا الإيـمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا ، وأن يجمع من كان تبدّد من الـمؤمنـين ، فألقـى الله فـي نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف ، وكان الـجبل بنـجلوس الذي فـيه الكهف لذلك الرجل ، وكان اسم ذلك الرجل أولـياس ، أن يهدم البنـيان الذي علـى فم الكهف ، فـيبنى به حظيرة لغنـمه ، فـاستأجر عاملـين ، فجعلا ينزعان تلك الـحجارة ، ويبنـيان بها تلك الـحظيرة ، حتـى نزعا ما علـى فم الكهف ، حتـى فتـحا عنهم بـاب الكهف ، وحجبهم الله من الناس بـالرعب فـيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إلـيهم غاية ما يـمكنه أن يدخـل من بـاب الكهف ، ثم يتقدّم حتـى يرى كلبهم دونهم إلـى بـاب الكهف نائما فلـما نزعا الـحجارة ، وفتـحا علـيهم بـاب الكهف ، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان مـحيـي الـموتـى للفتـية أن يجلسوا بـين ظهري الكهف ، فجلسوا فرحين مُسْفِرة وجوههم طيِّبة أنفُسهم ، فسلَّـم بعضهم علـى بعض ، حتـى كأنـما استـيقظوا من ساعتهم التـي كانوا يستـيقظون لها إذا أصبحوا من لـيـلتهم التـي يبـيتون فـيها . ثم قاموا إلـى الصلاة فصلَّوا ، كالذي كانوا يفعلون ، لا يرَون ، ولا يُرَى فـي وجوههم ، ولا أبشارهم ، ولا ألوانهم شيء يُنكرونه كهيئتهم حين رقدوا بعشيّ أمس ، وهم يرون أن ملكهم دقـينوس الـجبـار فـي طلبهم والتـماسهم . فلـما قضوا صلاتهم كما كانوا يفعلون ، قالوا لـيـملـيخا ، وكان هو صاحب نفقتهم ، الذي كان يبتاع لهم طعامهم وشرابهم من الـمدينة ، وجاءهم بـالـخبر أن دقـينوس يـلتـمسنهم ، ويسأل عنهم : أنبئنا يا أخي ما الذي قال الناس فـي شأننا عشيّ أمسى عند هذا الـجبـار ؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد خُيِّـل إلـيهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون فـي اللـيـلة التـي أصبحوا فـيها ، حتـى تساءلوا بـينهم ، فقال بعضهم لبعض : { كَمْ لَبِثْتُـمْ } نـياماً ؟ { قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أعْلَـمُ بِـما لَبِثْتُـمْ } وكل ذلك فـي أنفسهم يسير . فقال لهم يـملـيخا : افتُقِدْتـم والتـمستـم بـالـمدينة ، وهو يريد أن يُؤْتَـى بكم الـيوم ، فتَذْبحُون للطواغيت ، أو يقتُلُكم ، فما شاء الله بعد ذلك . فقال لهم مكسلـمينا : يا إخوتاه اعلـموا أنكم ملاَقوْن ، فلا تكفروا بعد إيـمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ، ولا تُنكروا الـحياة التـي لا تبـيد بعد إيـمانكم بـالله ، والـحياة من بعد الـموت ثم قالوا لـيـملـيخا : انطلق إلـى الـمدينة فتسمَّع ما يقال لنا بها الـيوم ، وما الذي نُذكر به عند دقـينوس ، وتلطَّف ، ولا يشعَرنّ بنا أحد ، وابتع لنا طعاماً فأتنا به ، فإنه قد آن لك ، وزدنا علـى الطعام الذي قد جئتنا به ، فإنه قد كان قلـيلاً ، فقد أصبحنا جياعاً ففعل يـملـيخا كما كان يفعل ، ووضع ثـيابه ، وأخذ الثـياب التـي كان يتنكر فـيها ، وأخذ وَرِقا من نفقتهم التـي كانت معهم ، التـي ضُربت بطابَع دقـينوس الـملك ، فـانطلق يـملـيخا خارجاً فلـما مرّ ببـاب الكهف ، رأى الـحجارة منزوعة عن بـاب الكهف ، فعجب منها ، ثم مرّ فلـم يبـال بها ، حتـى أتـى الـمدينة مستـخفـياً يصدّ عن الطريق تـخوّفـاً أن يراه أحد من أهلها ، فـيعرفه ، فـيذهب به إلـى دقـينوس ، ولا يشعر العبد الصالـح أن دقـينوس وأهل زمانه قد هَلكوا قبل ذلك بثلاث مئة وتسع سنـين ، أو ما شاء الله من ذلك إذ كان ما بـين أن ناموا إلـى أن استـيقظوا ثلاث مئة وتسع سنـين . فلـما رأى يـملـيخا بـاب الـمدينة رفع بصره ، فرأى فوق ظهر البـاب علامة تكون لأهل الإيـمان ، إذا كان ظاهراً فـيها فلـما رآها عجب وجعل ينظر مستـخفـياً إلـيها فنظر يـميناً وشمالاً ، فتعجب بـينه وبـين نفسه ، ثم ترك ذلك البـاب ، فتـحوّل إلـى بـاب آخر من أبوابها ، فنظر فرأى من ذلك ما يحيط بـالـمدينة كلها ، ورأى علـى كلّ بـاب مثل ذلك فجعل يخيـل إلـيه أن الـمدينة لـيس بـالـمدينة التـي كان يعرف ، ورأى ناساً كثيراً مـحدثـين لـم يكن يراهم قبل ذلك ، فجعل يـمشي ويعجب ويخيـل إلـيه أنه حيران ثم رجع إلـى البـاب الذي أتـى منه ، فجعل يعجب بـينه وبـين نفسه ويقول : يا لـيت شعري ، أما هذه عشية أمس ، فكان الـمسلـمون يخفون هذه العلامة ويستـخفون بها ، وأما الـيوم فإنها ظاهرة لعلـيّ حالـم ؟ ثم يرى أنه لـيس بنائم فأخذ كساءه فجعله علـى رأسه ، ثم دخـل الـمدينة ، فجعل يـمشي بـين ظهري سوقها ، فـيسمع أناساً كثـيراً يحلفون بـاسم عيسى ابن مريـم ، فزاده فرقاً ، ورأى أنه حيران ، فقام مُسنداً ظهره إلـى جدار من جُدُر الـمدينة ويقول فـي نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فلـيس علـى الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريـم إلا قُتل وأما الغداة فأسمعهم ، وكلّ إنسان يذكرأمر عيسى لا يخاف ثم قال فـي نفسه : لعلّ هذه لـيست بـالـمدينة التـي أعرف أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً منهم ، والله ما أعلـم مدينة قرب مدينتنا فقام كالـحيران لا يتوجه وجها ثم لقـي فتـى من أهل الـمدينة ، فقال له : ما اسم هذه الـمدينة يا فتـى ؟ قال : اسمها أفسوس ، فقال فـي نفسه : لعلّ بـي مساً ، أو بـي أمر أذهب عقلـي ؟ والله يحقّ لـي أن أسرع الـخروج منها قبل أن أخزى فـيها أو يصيبنـي شرّ فأهلك . هذا الذي يحدّث به يـملـيخا أصحابه حين تبـين لهم ما به . ثم إنه أفـاق فقال : والله لو عجلت الـخروج من الـمدينة قبل أن يفطن بـي لكان أكيس لـي فدنا من الذين يبـيعون الطعام ، فأخرج الورِق التـي كانت معه ، فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : بعنـي بهذه الورِق يا عبد الله طعاماً . فأخذها الرجل ، فنظر إلـى ضرب الورق ونقشها ، فعجب منها ، ثم طرحها إلـى رجل من أصحابه ، فنظر إلـيها ، ثم جعلوا يتطارحونها بـينهم من رجل إلـى رجل ، ويتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بـينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد أصاب كنزاً خبـيئاً فـي الأرض منذ زمان ودهر طويـل فلـما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقاص شديداً ، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنـما يريدون أن يذهبوا به إلـى ملكهم دقـينوس يسلـمونه إلـيه . وجعل أناس آخرون يأتونه فـيتعرّفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : أفضلوا علـيّ ، فقد أخذتـم ورقـي فأمسكوا ، وأما طعامكم فلا حاجة لـي به . قالوا له : من أنت يا فتـى ، وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلـين ، فأنت تريد أن تـخفـيه منا ، فـانطلق معنا فأرناه وشاركنا فـيه ، نـخف علـيك ما وجدت ، فإنك إن لا تفعل نأت بك السلطان ، فنسلـمك إلـيه فـيقتلك . فلـما سمع قولهم ، عجب فـي نفسه فقال : قد وقعت فـي كلّ شيء كنت أحذر منه ثم قالوا : يا فتـى إنك والله ما تستطيع أن تكتـم ما وجدت ، ولا تظنّ فـي نفسك أنه سيخفـى حالك . فجعل يـملـيخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إلـيهم ، وفَرِق حتـى ما يحير إلـيهم جوابـاً فلـما رأوه لا يتكلـم أخذوا كساءه فطوقوه فـي عنقه ، ثم جعلوا يقودونه فـي سكك الـمدينة ملبَّبـاً ، حتـى سمع به من فـيها ، فقـيـل : أُخذ رجلٌ عنده كنزٌ . واجتـمع علـيه أهل الـمدينة صغيرهم وكبـيرهم ، فجعلوا ينظرون إلـيه ويقولون : والله ما هذا الفتـى من أهل هذه الـمدينة ، وما رأيناه فـيها قطّ ، وما نعرفه فجعل يـملـيخا لا يدري ما يقول لهم ، مع ما يسمع منهم فلـما اجتـمع علـيه أهل الـمدينة ، فَرِق ، فسكت فلـم يتكلـم ولو أنه قال إنه من أهل الـمدينة لـم يصدّق . وكان مستـيقناً أنّ أبـاه وإخوته بـالـمدينة ، وأن حسبه من أهل الـمدينة من عظماء أهلها ، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا ، وقد استـيقن أنه من عشية أمس يعرف كثـيراً من أهلها ، وأنه لا يعرف الـيوم من أهلها أحداً . فبـينـما هو قائم كالـحيران ينتظر متـى يأته بعض أهله ، أبوه أو بعض إخوته فـيخـلصه من أيديهم ، إذ اختطفوه فـانطلقوا به إلـى رئيسي الـمدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها ، وهما رجلان صالـحان ، كان اسم أحدهما أريوس ، واسم الآخر أسطيوس فلـما انطلق به إلـيهما ، ظنّ يـملـيخا أنه يُنطلق به إلـى دقـينوس الـجبـار ملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يـلتفت يـميناً وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه ، كما يُسخر من الـمـجنون والـحيران ، فجعل يـملـيخا يبكي . ثم رفع رأسه إلـى السماء وإلـى الله ، ثم قال : اللهمّ إله السموات والأرض ، أولـج معي روحاً منك الـيوم تؤيدنـي به عند هذا الـجبـار . وجعل يبكي ويقول فـي نفسه : فرق بـينـي وبـين إخوتـي يا لـيتهم يعلـمون ما لقـيت ، وأنى يُذهب بـي إلـى دقـينوس الـجبـار فلو أنهم يعلـمون ، فـيأتون ، فنقوم جميعاً بـين يدي دقـينوس فإنا كنا تواثقنا لنكوننّ معاً ، لا نكفر بـالله ولا نشرك به شيئاً ، ولا نعبد الطواغيت من دون الله . فُرِّق بـينـي وبـينهم ، فلن يرونـي ولن أراهم أبداً وقد كنا تواثقنا أن لا نفترق فـي حياة ولا موت أبداً . يا لـيت شعري ما هو فـاعل بـي ؟ أقاتلـي هو أم لا ؟ ذلك الذي يحدّث به يـملـيخا نفسه فـيـما أخبر أصحابه حين رجع إلـيهم . فلـما انتهى إلـى الرجلـين الصالـحين أريوس وأسطيوس ، فلـما رأى يـملـيخا أنه لـم يُذهب به إلـى دقـينوس ، أفـاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إلـيها وعجبـا منها ، ثم قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتـى ؟ هذا الورِق يشهد علـيك أنك قد وجدت كنزاً فقال لهما يـملـيخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذه الورِق ورق آبـائي ، ونقش هذه الـمدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأنـي ، وما أدري ما أقول لكم فقال له أحدهما : مـمن أنت ؟ فقال له يـملـيخا : ما أدري ، فكنت أرى أنـي من أهل هذه القرية ، قالوا : فمن أبوك ومن يعرفك بها ؟ فأنبأهم بـاسم أبـيه ، فلـم يجدوا أحداً يعرفه ولا أبـاه فقال له أحدهما : أنت رجل كذّاب لا تنبئنا بـالـحقّ فلـم يدر يـملـيخا ما يقول لهم ، غيرأنه نكس بصره إلـى الأرض . فقال له بعض من حوله : هذا رجل مـجنون فقال بعضهم : لـيس بـمـجنون ، ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي ينفلت منكم فقال له أحدهما ، ونظر إلـيه نظراً شديداً : أتظنّ أنك إذ تتـجانن نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبـيك ، وضرب هذه الورق ونقشها منذ أكثر من ثلاث مئة سنة ؟ وإنـما أنت غلام شاب تظنّ أنك تأفكنا ، ونـحن شمط كما ترى ، وحولك سُراة أهل الـمدينة ، وولاة أمرها ، إنـي لأظننـي سآمر بك فتعذّب عذابـاً شديداً ، ثم أوثقك حتـى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت . فلـمال قال ذلك ، قال يـملـيخا : أنبئونـي عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتـم صدقتكم عما عندي أرأيتـم دقـينوس الـملك الذي كان فـي هذه الـمدينة عشية أمس ما فعل ؟ فقال له الرجل : لـيس علـى وجه الأرض رجل اسمه دقـينوس ، ولـم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان ودهر طويـل ، وهَلكت بعده قرون كثـيرة فقال له يـملـيخا : فوالله إنـي إذاً لـحيران ، وما هو بـمصدّق أحد من الناس بـما أقول والله لقد علـمت ، لقد فررنا من الـجبـار دقـينوس ، وإنـي قد رأيته عشية أمس حين دخـل مدينة أفسوس ، ولكن لا أدري أمدينة أفسوس هذه أم لا ؟ فـانطلقا معي إلـى الكهف الذي فـي جبل بنـجلوس أريكم أصحابـي . فلـما سمع أريوس ما يقول يـملـيخا قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله جعلها لكم علـى يدي هذا الفتـى ، فـانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه ، كما قال . فـانطلق معه أريوس وأسطيوس ، وانطلق معهم أهل الـمدينة كبـيرهم وصغيرهم ، نـحو أصحاب الكهف لـينظروا إلـيهم . ولـما رأى الفتـية أصحاب الكهف يـملـيخا قد احتبس علـيهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتـي به ، ظنوا أنه قد أُخِذ فذُهب به إلـى ملكهم دَقْـينوس الذي هربوا منه . فبـينـما هم يظنون ذلك ويتـخوّفونه ، إذ سمعوا الأصوات وجلبة الـخيـل مصعدة نـحوهم ، فظنوا أنهم رُسل الـجبـار دقـينوس بعث إلـيهم لـيُؤْتـي بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلـى الصلاة ، وسلَّـم بعضهم علـى بعض ، وأوصى بعضهم بعضاً ، وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا يـملـيخا ، فإنه الآن بـين يدي الـجبـار دقـينوس ينتظر متـى نأته . فبـينـما هم يقولون ذلك ، وهم جلوس بـين ظهري الكهف ، فلـم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفـاً علـى بـاب الكهف . وسبقهم يـملـيخا ، فدخـل علـيهم وهو يبكي . فلـما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن شأنه ، فأخبرهم خبره وقصّ علـيهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نـياماً بأمر الله ذلك الزمان كله ، وإنـما أوقظوا لـيكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث ، ولـيعلـموا أن الساعة آتـية لا ريب فـيها . ثم دخـل علـى أثر يـملـيخا أريوس ، فرأى تابوتا من نـحاس مختوماً بخاتـم من فضة ، فقام ببـاب الكهف ثم دعا رجالاً من عظماء أهل الـمدينة ، ففتـح التابوت عندهم ، فوجدوا فـيه لوحين من رصاص ، مكتوبـاً فـيهما كتاب ، فقرأهما فوجد فـيهما : أن مكسلـمينا ، ومـحسلـمينا ، ويـملـيخا ، ومرطونس ، وكسطونس ، ويبورس ، ويكرنوس ، ويطبـيونس ، وقالوش ، كانوا فتـية هربوا من ملكهم دقـينوس الـجبـار ، مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخـلوا هذا الكهف فلـما أخبر بـمكانهم أمر بـالكهف فسدّ علـيهم بـالـحجارة ، وإنا كتبنا شأنهم وقصة خبرهم ، لـيعلـمه من بعدهم إن عثر علـيهم . فلـما قرأوه ، عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فـيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبـيحه . ثم دخـلوا علـى الفتـية الكهف ، فوجودهم جلوساً بـين ظهريه ، مُشرقة وجوههم ، لـم تبل ثـيابهم . فخرّ أريوس وأصحابه سجوداً ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته . ثم كلـم بعضهم بعضاً ، وأنبأهم الفتـية عن الذين لقوا من ملكهم دقـينوس ذلك الـجبـار الذي كانوا هربوا منه . ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلـى ملكهم الصالـح تـيذوسيس ، أن عَجِّل لعلك تنظر إلـى آية من آيات الله ، جعلها الله علـى ملكك ، وجعلها آية للعالـمين ، لتكون لهم نوراً وضياء ، وتصديقاً بـالبعث ، فـاعجل علـى فتـية بعثهم الله ، وقد كان توفـاهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة . فلـما أتـى الـملك تـيذوسيس الـخبر ، قام من الـمَسْندة التـي كان علـيها ، ورجع إلـيه رأيه وعقله ، وذهب عنه همه ، ورجع إلـى الله عزّ وجلّ ، فقال : أحمدك اللهمّ ربّ السموات والأرض ، أعبدك ، وأحمدك ، وأسبح لك تطوّلت علـيّ ، ورحمتنـي برحمتك ، فلـم تطفـىء النور الذي كنت جعلته لآبـائي ، وللعبد الصالـح قسطيطينوس الـملك ، فلـما نبأ به أهل الـمدينة ركبوا إلـيه ، وساروا معه حتـى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل الـمدينة ، وساروا معه حتـى صعدوا نـحو الكهف حتـى أتوه فلـما رأى الفتـية تـيذوسيس ، فرحوا به ، وخرّوا سجودا علـى وجوههم وقام تـيذوسيس قدامهم ، ثم اعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بـين يديه علـى الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ويقول : والله ما أشبه بكم إلا الـحواريون حين رأوا الـمسيح . وقال : فرج الله عنكم ، كأنكم الذي تُدْعَون فتـحْشَرون من القبور فقال الفتـية لتـيذوسيس : إنا نودّعك السلام ، والسلام علـيك ورحمة الله ، حفظك الله ، وحفظ لك ملكك بـالسلام ، ونعيذك بـالله من شرّ الـجنّ والإنس فأمر بعيش من خُـلَّر ونشيـل . إن أسوأ ما سلك فـي بطن الإنسان أن لا يعلـم شيئاً إلا كرامة إن أكرم بها ، ولا هوان إن أهين به . فبـينـما الـملك قائم ، إذ رجعوا إلـى مضاجعهم ، فناموا ، وتوفـي الله أنفسهم بأمره . وقام الـملك إلـيهم ، فجعل ثـيابه علـيهم ، وأمر أن يجعل لكلّ رجل منهم تابوت من ذهب فلـما أَمْسَوا ونام ، أتوه فـي الـمنام ، فقالوا : إنا لـم نـخـلق من ذهب ولا فضة ، ولكنا خُـلقنا من تراب وإلـى التراب نصير ، فـاتركنا كما كنا فـي الكهف علـى التراب حتـى يبعثنا الله منه فأمر الـملك حينئذٍ بتابوت من ساج ، فجعلوهم فـيه ، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بـالرعب ، فلـم يقدر أحد علـى أن يدخـل علـيهم . وأمر الـملك فجعل كهفهم مسجداً يُصَلَّـى فـيه ، وجعل لهم عيداً عظيـماً ، وأمر أن يؤتـى كلّ سنة . فهذا حديث أصحاب الكهف . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد ، عن عبد الله بن عبـيد بن عمير ، قال : بعثهم الله يعنـي الفتـية أصحاب الكهف وقد سلط علـيهم ملك مسلـم ، يعنـي علـى أهل مدينتهم وسلَّط الله علـى الفتـية الـجوع ، فقال قائل منهم : { كَمْ لَبِثْتُـمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال : فردّوا علـم ذلك إلـى الله ، { قالُوا رَبُّكُمْ أعْلَـمُ بِـما لَبِثْتُـمْ فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ } وإذا معهم ورِق من ضرب الـملك الذي كانوا فـي زمانه { فَلْـيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } : أي بطعام { وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً } . فخرج أحدهم فرأى الـمعالـم متنكرة حتـى انتهى إلـى الـمدينة ، فـاستقبله الناس لا يعرف منهم أحداً فخرج ولا يعرفونه ، حتـى انتهى إلـى صاحب الطعام ، فسامه بطعامه ، فقال صاحب الطعام : هات ورقك فأخرج إلـيه الورق ، فقال : من أين لك هذا الورق ؟ قال : هذه ورِقُنا وورِق أهل بلادنا فقال : هيهات هذه الورِق من ضرب فلان بن فلان منذ ثلاث مئة وتسع سنـين أنت أصبت كنزاً ولست بتاركك حتـى أرفعك إلـى الـملك . فرفعه إلـى الـملك ، وإذا الـملك مسلـم وأصحابه مسلـمون ، ففرح واستبشر ، وأظهر لهم أمره ، وأخبرهم خبر أصحابه فبعثوا إلـى اللوح فـي الـخزانة ، فأتوا به ، فوافق ما وصف من أمرهم ، فقال الـمشركون : نـحن أحقّ بهم هؤلاء أبناء آبـائنا ، وقال الـمسلـمون : نـحن أحقّ بهم ، هم مسلـمون منا . فـانطلقوا معه إلـى الكهف فلـما أتوا بـاب الكهف قال : دعونـي حتـى أدخـل علـى أصحابـي حتـى أبشرهم ، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتـموهم فدخـل فبشَّرهم ، وقبض الله أرواحهم . قال : وعمى الله علـيهم مكانهم ، فلـم يهتدوا ، فقال الـمشركون : نبنـي علـيهم بُنـيانا ، فإنهم أبناء آبـائنا ، ونعبد الله فـيها . وقال الـمسلـمون : نـحن أحقّ بهم ، هم منا ، نبنـي علـيهم مسجداً نصلـي فـيه ، ونعبد الله فـيه . وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي قول من قال : إن الله تعالـى بعثهم من رقدتهم لـيتساءلوا بـينهم كما بـيَّنا قبل ، لأن الله عزّ ذكره ، كذلك أخبر عبـاده فـي كتابه ، وإن الله أعثر علـيهم القوم الذين أعثرهم علـيهم ، لـيتـحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتـية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا ، ولـم يشيبوا علـى مرّ الأيام واللـيالـي علـيهم ، ولـم يهرَموا علـى كرّ الدهور والأزمان فـيهم قدرته علـى بعث من أماته فـي الدنـيا من قبره إلـى موقـف القـيامة يوم القـيامة ، لأن الله عزّ ذكره بذلك أخبرنا ، فقال : { وكذلكَ أعْثَرنْا عَلَـيْهمْ لِـيَعْلَـمُوا أنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وأنَّ السَّاعَة لا رَيْبَ فِـيها } واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله : { فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ } فقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الـمدينة وبعض العراقـيـين { بِوَرِقِكُمْ هذِهِ } بفتـح الواو وكسر الراء والقاف . وقرأ عامَّة قرّاء الكوفة والبصرة : « بوَرْقِكُمْ » بسكون الراء ، وكسر القاف . وقرأه بعض الـمكيـين بكسر الراء ، وإدغام القاف فـي الكاف ، وكلّ هذه القراءات متفقات الـمعانـي ، وإن اختلفت الألفـاظ منها ، وهنّ لغات معروفـات من كلام العرب ، غير أن الأصل فـي ذلك فتـح الواو وكسر الراء والقاف ، لأنه الوَرِق ، وما عدا ذلك فإنه داخـل علـيه طلب التـخفـيف . وفـيه أيضاً لغة أخرى وهو « الوَرْق » ، كما يقال للكَبِد كَبْدَ . فإذا كان ذلك هو الأصل ، فـالقراءة به إلـيّ أعجب ، من غير أن تكون الأخريان مدفوعة صحتهما ، وقد ذكرنا الرواية بأن الذي بُعث معه بـالوَرِق إلـى الـمدينة كان اسمه يـملـيخا . وقد : حدثنـي عبـيد الله بن مـحمد الزهري ، قال : ثنا سفـيان ، عن مقاتل { فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بوَرِقِكُمْ هَذِهِ } اسمه يـملـيخ . وأما قوله : { فَلْـيَنْظُرْ أيُّها أزْكَى طَعاماً } فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله فقال بعضهم : معناه فلـينظر أيّ أهل الـمدينة أكثر طعاماً . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفـيان ، عن أبـي حصين ، عن عكرِمة { أيُّها أزْكَى طَعاماً } قال : أكثر . وحدثنا الـحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبـي حُصَين ، عن عكرِمة مثله ، إلا أنه قال : أيُّهُ أكْثَرُ . وقال آخرون : بل معناه : أيها أحلّ طعاماً . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفـيان ، عن أبـي حصين ، عن سعيد بن جبـير : { أيُّها أزْكَى طَعاماً } قال : أحلّ . حدثنا الـحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبـي حصين ، عن سعيد بن جبـير ، مثله . وقال آخرون : بل معناه : أيها خير طعاماً . ذكر من قال ذلك : حدثنا الـحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، فـي قوله : { أزْكَى طَعاماً } قال : خير طعاماً . وأولـى الأقوال عندي فـي ذلك بـالصواب : قول من قال : معنى ذلك : أحلّ وأطهر ، وذلك أنه لا معنى فـي اختـيار الأكثر طعاماً للشراء منه إلا بـمعنى إذا كان أكثرهم طعاماً ، كان خـلـيقاً أن يكون الأفضل منه عنده أوجد ، وإذا شرط علـى الـمأمور الشراء من صاحب الأفضل ، فقد أمر بشراء الـجيد ، كان ما عند الـمشتري ذلك منه قلـيلاً الـجيد أو كثـيراً ، وإنـما وجه من وجه تأويـل أزكى إلـى الأكثر ، لأنه وجد العرب تقول : قد زكا مال فلان : إذا كثر ، وكما قال الشاعر : @ قَبـائِلُنا سَبْعٌ وأنُتُـمْ ثَلاثَةٌ وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وأطْيَبُ @@ بمعنى : أكثر ، وذلك وإن كان كذلك ، فإن الـحلال الـجيد وإن قلّ ، أكثر من الـحرام الـخبـيث وإن كثر . وقـيـل : { فَلْـيَنْظُرْ أيُّها } فأضيف إلـى كناية الـمدينة ، والـمراد بها أهلها ، لأن تأويـل الكلام : فلـينظر أيّ أهلها أزكى طعاماً لـمعرفة السامع بـالـمراد من الكلام . وقد يُحتـمل أن يكونوا عنوا بقولهم { أيُّها أزْكَى طَعاماً } : أيها أحلّ ، من أجل أنهم كانوا فـارقوا قومهم وهم أهل أوثان ، فلـم يستـجيزوا أكل ذبـيحتهم . وقوله : { فَلْـيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } يقول : فلـيأتكم بقوت منه تقتاتونه ، وطعام تأكلونه ، كما : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد ، عن عبد الله بن عبـيد بن عمير { فَلْـيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } قال : بطعام . وقوله : { وَلْـيَتَلَطَّفْ } يقول : ولـيترفق فـي شرائه ما يشتري ، وفـي طريقه ودخوله الـمدينة { وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً } يقول : ولا يعلـمنّ بكم أحداً من الناس . وقوله : { إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَـيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } يعنون بذلك : دقـينوس وأصحابه قالوا : إن دقـينوس وأصحابه إن يظهروا علـيكم ، فـيعلـموا مكانكم ، يرجموكم شتـما بـالقول ، كما : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج ، عن ابن جريج ، فـي قوله : { إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَـيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } قال : يشتـموكم بـالقول ، يؤذوكم . وقوله : { أوْ يُعِيدُوكُمْ فِـي مِلَّتِهِمْ } يقول : أو يردّوكم فـي دينهم ، فتصيروا كفـارا بعبـادة الأوثان . { وَلَنْ تُفْلِـحُوا إذًا أبَداً } يقول : ولن تدركوا الفلاح ، وهو البقاء الدائم والـخـلود فـي الـجنان ، إذن : أي إن أنتـم عُدْتـم فـي ملتهم . أبداً : أيام حياتكم …