Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 103-103)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه : وتعلقوا بأسبـاب الله جميعاً . يريد بذلك تعالـى ذكره : وتـمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إلـيكم فـي كتابه إلـيكم من الألفة والاجتـماع علـى كلـمة الـحقّ والتسلـيـم لأمر الله . وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى معنى الاعتصام . وأما الـحبل ، فإنه السبب الذي يوصل به إلـى البغية والـحاجة ، ولذلك سمي الأمان حبلاً ، لأنه سبب يوصل به إلـى زوال الـخوف والنـجاة من الـجزع والذعر ، ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة : @ وإذَا تُـجَوِّزُها حِبـالُ قَبِـيـلةَ أخذَتَ مِنَ الأُخْرَى إلـيكَ حِبـالَها @@ ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ٱلنَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل . ذكر من قال ذلك : حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم ، قال : ثنا هشيـم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن الشعبـي ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال فـي قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } قال : الـجماعة . حدثنا الـمثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : ثنا هشيـم ، عن العوّام ، عن الشعبـيّ ، عن عبد الله فـي قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } قال : حبل الله : الـجماعة . وقال آخرون : عَنَى بذلك القرآن ، والعهد الذي عهد فـيه . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } حبل الله الـمتـين الذي أمر أن يعتصم به : هذا القرآن . حدثنا الـحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، فـي قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } قال : بعهد الله وأمره . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن شقـيق ، عن عبد الله ، قال : إن الصراط مـحتضر تـحضره الشياطين ، ينادون : يا عبد الله هلـمّ هذا الطريق ! لـيصدّوا عن سبـيـل الله . فـاعتصموا بحبل الله ، فإن حبل الله هو كتاب الله . حدثنا مـحمد ، قال : ثنا أحمد بن الـمفضل ، عن أسبـاط ، عن السديّ : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } أما حبل الله : فكتاب الله . حدثنـي مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد : { بِحَبْلِ ٱللَّهِ } : بعهد الله . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { بِحَبْلِ ٱللَّهِ } قال : العهد . حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبـي وائل ، عن عبد الله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } قال : حبل الله : القرآن . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك فـي قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } قال : القرآن . حدثنا سعيد بن يحيـى ، قال : ثنا أسبـاط بن مـحمد ، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان العرزمي ، عن أبـي سعيد الـخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِتاب اللَّهِ ، هُوَ حَبْلُ الله الـمَـمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إلـى الأرْضِ " وقال آخرون : بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله . ذكر من قال ذلك : حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبـي جعفر ، عن أبـيه ، عن الربـيع ، عن أبـي العالـية فـي قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } يقول : اعتصموا بـالإخلاص لله وحده . حدثنـي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فـي قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } قال : الـحبل : الإسلام . وقرأ { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } . يعنـي جلّ ثناؤه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } : ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إلـيكم فـي كتابه من الائتلاف والاجتـماع علـى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلـى أمره . كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أن الله عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة وقدّم إلـيكم فـيها ، وحذّركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والـجماعة ، فـارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتـم ، ولا قوّة إلا بـالله . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبـي جعفر ، عن أبـيه ، عن الربـيع ، عن أبـي العالـية : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } : لا تعادوا علـيه ، يقول : علـى الإخلاص لله ، وكونوا علـيه إخواناً . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالـح ، قال : ثنـي معاوية بن صالـح ، أن الأوزاعي حدثه ، أن يزيد الرقاشي حدثه ، أنه سمع أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ بَنِـي إسْرائِيـلَ افْتَرَقَتْ علـى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَإنَّ أُمَّتِـي سَتَفْتَرِقُ علـى اثْنَـيْنِ وَسبعينَ فِرْقَةً كلُّهمْ فِـي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةً " قال : فقـيـل يا رسول الله ، وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : « الـجَمَاعَة » { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } . حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي يحدّث عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه . حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربي ، عن ابن أبـي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة الـمري ، عن عبد الله أنه قال : يا أيها الناس علـيكم بالطاعة والـجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به ، وإنّ ما تكرهون فـي الـجماعة والطاعة هو خير مـما تستـحبون فـي الفرقة . حدثنا عبد الـحميد بن بـيان الـيشكري ، قال : أخبرنا مـحمد بن يزيد ، عن إسماعيـل بن أبـي خالد ، عن الشعبـي ، عن ثابت بن قطنة ، قال : سمعت ابن مسعود وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، ثم ذكر نـحوه . حدثنا إسماعيـل بن حفص الآملـي ، قال : ثنا عبد الله بن نـمير أبو هشام ، قال : ثنا مـجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن ثابت بن قطنة الـمري ، قال : قال عبد الله : علـيكم بـالطاعة والـجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ثم ذكر نـحوه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } . يعنـي بقوله جلّ ثناؤه : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } : واذكروا ما أنعم الله به علـيكم من الألفة والاجتـماع علـى الإسلام . واختلف أهل العربـية فـي قوله : { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } فقال بعض نـحويـي البصرة فـي ذلك : انقطع الكلام عند قوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } ، ثم فسر بقوله : { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } وأخبر بـالذي كانوا فـيه قبل التألـيف ، كما تقول : أمْسَكَ الـحائط أن يـميـل . وقال بعض نـحويـي الكوفة : قوله { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } تابع قوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطعة منها . والصواب من القول فـي ذلك عندي أن قوله : { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } متصل بقوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطع عنه . وتأويـل ذلك : واذكروا أيها الـمؤمنون نعمة الله علـيكم التـي أنعم بها علـيكم حين كنتـم أعداء : أي بشرككم ، يقتل بعضكم بعضاً ، عصبـية فـي غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بـالإسلام بـين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخواناً بعد إذ كنتـم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتـماع كلـمتكم علـيه . كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } كنتـم تذابحون فـيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم حتـى جاء الله بـالإسلام ، فآخى به بـينكم ، وألف به بـينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب ! حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا ابن أبـي جعفر ، عن أبـيه ، عن الربـيع فـي قوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاءً } : يقتل بعضكم بعضاً ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتـى جاء الله بـالإسلام ، فألّف به بـينكم ، وجمع جمعكم علـيه ، وجعلكم علـيه إخواناً . فـالنعمة التـي أنعم الله علـى الأنصار التـي أمرهم تعالـى ذكره فـي هذه الآية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتـماع كلـمتهم علـيها ، والعداوة التـي كانت بـينهم ، التـي قال الله عزّ وجلّ : { إِذْ كُنتُم أَعْدَاءً } فإنها عداوة الـحروب التـي كانت بـين الـحيـين من الأوس والـخزرج فـي الـجاهلـية قبل الإسلام ، يزعم العلـماء بأيام العرب ، أنها تطاولت بـينهم عشرين ومائة سنة . كما : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، قال : قال ابن إسحاق : كانت الـحرب بـين الأوس والـخزرج عشرين ومائة سنة ، حتـى قام الإسلام وهم علـى ذلك ، فكانت حربهم بـينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلـم يسمع بقوم كان بـينهم من العدواة والـحرب ما كان بـينهم . ثم إن الله عزّ وجلّ أطفأ ذلك بـالإسلام ، وألف بـينهم برسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم . فذكَّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيـم ما كانوا فـيه فـي جاهلـيتهم من البلاء والشقاء بـمعاداة بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً ، وخوّف بعضهم من بعض ، وما صاروا إلـيه بـالإسلام واتبـاع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيـمان به ، وبـما جاء به من الائتلاف والاجتـماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخواناً . وكان سببُ ذلك ما : حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا سلـمة ، قال : ثنـي ابن إسحاق ، قال : ثنا عاصم بن عمر بن قتادة الـمدنـي ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بنـي عمرو بن عوف مكة حاجاً أو معتـمراً . قال : وكان سويد إنـما يسميه قومه فـيهم الكامل لـجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلـى الله عزّ وجلّ وإلـى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعلّ الذي معك مثل الذي معي ! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " « وَما الَّذِي مَعَكَ ؟ » قال مـجلة لقمان يعنـي حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اعْرِضْها عَلـي ! » فعرضها علـيه ، فقال : « إنَّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ ، مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا ، قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَّـي هُدًى وَنُورٌ » " قال : فتلا علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلـى الإسلام ، فلـم يبعد منه ، وقال : إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه ، وقدم الـمدينة ، فلـم يـلبث أن قتلته الـخزرج ، فإن كان قومه لـيقولون : قد قتل وهو مسلـم ، وكان قتله قبل يوم بُعاث . " هَلْ لَكُمْ إلـى خَيْرٍ مـمَّا جِئْتُـمْ لَهُ ؟ " قالُوا : وَما ذَاكَ ؟ قال : " أنا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِـي إلـى العِبـادِ أدْعُوهُمْ إلـى اللَّهِ أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وأَنْزَلَ عَلَّـي الكِتابَ " ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا علـيهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا والله خير مـما جئتـم له ! قال : فأخذ أبو الـجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلـى الـمدينة ، وكانت وقعة بُعاث بـين الأوس والـخزرج . قال : ثم لـم يـلبث إياس بن معاذ أن هلك قال : فلـما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبـيه صلى الله عليه وسلم ، وإنـجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الـموسم الذي لقـي فـيه النفر من الأنصار يعرض نفسه علـى قبـائل العرب كما كان يصنع فـي كل موسم . فبـينا هو عند العقبة ، إذ لقـي رهطاً من الـخزرج أراد الله لهم خيراً . قال ابن حميد : قال سلـمة : قال مـحمد بن إسحاق : فحدثنـي عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لـما لقـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " مَنْ أنْتُـمْ ؟ " قالوا : نفر من الـخزرج ، قال : " أمِنْ مَوَالـىَ يَهُودَ ؟ " قالوا : نعم ، قال : " أفَلا تَـجْلِسُونَ حتـى أُكَلِّـمَكُمْ ؟ " قالوا : بلـى . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلـى الله وعرض علـيهم الإسلام ، وتلا علـيهم القرآن . قال : وكان مـما صنع الله لهم به فـي الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلـم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بـينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبـياً الآن مبعوث قد أظلّ زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلـما كلـم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلـى الله عزّ وجلّ ، قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلـموا والله إنه للنبـيّ الذي توعدكم به يهود ، ولا يسبقُنكم إلـيه ! فأجابوه فـيـما دعاهم إلـيه بأن صدقوه ، وقبلوا منه ما عرض علـيهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بـينهم من العداوة والشرّ ما بـينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، وسنقدم علـيهم ، فندعوهم إلـى أمرك ، ونعرض علـيهم الذي أجبناك إلـيه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله علـيه ، فلا رجل أعزّ منك ! ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راجعين إلـى بلادهم ، قد آمنوا وصدّقوا ، وهم فـيـما ذكر لـي ستة نفر . قال : فلـما قدموا الـمدينة علـى قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلـى الإسلام ، حتـى فشا فـيهم ، فلـم يبق دار من دور الأنصار إلا وفـيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى إذا كان العام الـمقبل ، وافـى الـموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوه بـالعقبة ، وهي العقبة الأولـى ، فبـايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى بـيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض علـيهم الـحرب . حدثنا الـحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار ، فآمنوا به وصدّقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بـين قومنا حربـاً ، وإنا نـخاف إن جئت علـى حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام الـمقبل ، وقالوا : يا رسول الله نذهب ، فلعلّ الله أن يصلـح تلك الـحرب ! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلـح الله عزّ وجلّ تلك الـحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلـح وهو يوم بُعاث فلقوه من العام الـمقبل سبعين رجلاً قد آمنوا ، فأخذ علـيهم النقبـاء اثنـي عشر نقـيبـا ، فذلك حين يقول : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } . حدثنـي مـحمد بن الـحسين ، قال : ثنا أحمد بن الـمفضل ، قال : ثنا أسبـاط ، عن السدي : أما : { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } ففـي حرب { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بـالإسلام . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنا أبو سفـيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، بنـحوه ، وزاد فـيه : فلـما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الـحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الـحرة ! فخرجوا إلـيها ، فنزلت هذه الآية : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } … الآية ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلـم يزل يتلوها علـيهم حتـى اعتنق بعضهم بعضاً ، وحتـى إن لهم لـخنـيناً ، يعنـي البكاء . وسمير الذي زعم السديّ أن قوله { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } عنى به حربه ، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بنـي عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان فـي قوله : @ إنَّ سُمَيراً أرَى عَشِيرَتَهُ قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا إنْ يَكُنِ الظَّنُّ صَادِقـي ببنـي النَّـ ـجَّارِ لـم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا @@ وقد ذكر علـماء الأنصار أن مبدأ العداوة التـي هيجت الـحروب التـي كانت بـين قبـيـلتـيها الأوس والـخزرج وأولها كان بسبب قتل مولـى لـمالك بن العجلان الـخزرجي ، يقال له : الـحر بن سمير ، من مزينة ، وكان حلـيفـاً لـمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بـينهم إلـى أن أطفأها الله بنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك معنى قول السديّ : حرب ابن سمير . وأما قوله : { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } فإنه يعنـي : فأصبحتـم بتألـيف الله عزّ وجلّ بـينكم بـالإسلام وكلـمة الـحقّ والتعاون علـى نصرة أهل الإيـمان ، والتآزر علـى من خالفكم من أهل الكفر ، إخواناً متصادقـين لا ضغائن بـينكم ، ولا تـحاسد . كما : حدثنـي بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } ، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود : كيف أصبحتـم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخواناً . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } . يعنـي بقوله جلّ ثناؤه : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ } : وكنتـم يا معشر الـمؤمنـين من الأوس والـخزرج علـى حرف حفرة من النار ، وإنـما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا علـيه قبل أن يهديهم الله للإسلام ، يقول تعالـى ذكره : وكنتـم علـى طرف جهنـم بكفركم الذي كنتـم علـيه ، قبل أن ينعم الله علـيكم بـالإسلام ، فتصيروا بـائتلافكم علـيه إخواناً ، لـيس بـينكم وبـين الوقوع فـيها إلا أن تـموتوا علـى ذلك من كفركم ، فتكونوا من الـخالدين فـيها ، فـانقذكم الله منها بـالإيـمان الذي هداكم له . وشفـا الـحفرة : طرفها وحرفها ، مثل شفـا الركية والبئر ، ومنه قول الراجز : @ نـحْنُ حَفَرْنا للـحَجيج سَجْلَهْ نابِتَةً فوقَ شَفَـاهَا بَقْلَهْ @@ يعنـي فوق حرفها ، يقال : هذا شفـا هذه الركية مقصور ، وهما شفواها . وقال : { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } : يعنـي فأنقذكم من الـحفرة ، فردّ الـخبر إلـى الـحفرة ، وقد ابتدأ الـخبر عن الشفـا ، لأن الشفـا من الـحفرة ، فجاز ذلك ، إذ كان الـخبر عن الشفـا علـى السبـيـل التـي ذكرها فـي هذه الآية خبراً عن الـحفرة ، كما قال جرير بن عطية : @ رأتْ مَرَّ السِّنِـينَ أخَذْنَ مِنِّـي كما أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ @@ فذكر مرّ السنـين ، ثم رجع إلـى الـخبر عن السنـين . وكما قال العجاج : @ طُولُ اللَّـيالـي أسْرَعَتْ فِـي نَقْضِي طَوَيْنَ طُولـي وَطَوَيْنَ عَرْضِي @@ وقد بـينت العلة التـي من أجلها قـيـل ذلك كذلك فـيـما مضى قبل . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك من التأويـل ، قال أهل التأويـل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ } كان هذا الـحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً ، وأشقاه عيشا ، وأبـينه ضلالة ، وأعراه جلوداً ، وأجوعه بطوناً ، مكعومين علـى رأس حجر بـين الأسدين : فـارس ، والروم ، لا والله ما فـي بلادهم يومئذ من شيء يحسدون علـيه ، من عاش منهم عاش شقـياً ومن مات رُدّي فـي النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلـم قبـيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض ، كانوا فـيها أصغر حظاً ، وأدقّ فـيها شأناً منهم ، حتـى جاء الله عزّ وجلّ بـالإسلام ، فورّثكم به الكتاب ، وأحلّ لكم به دار الـجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكاً علـى رقاب الناس ، وبـالإسلام أعطى الله ما رأيتـم ، فـاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين ، وإن أهل الشكر فـي مزيد الله ، فتعالـى ربنا وتبـارك . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبـي جعفر ، عن أبـيه ، عن الربـيع بن أنس ، قوله : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ } يقول : كنتـم علـى الكفر بـالله ، { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } : من ذلك ، وهداكم إلـى الإسلام . حدثنا مـحمد بن الـحسين ، قال : ثنا أحمد بن الـمفضل ، قال : ثنا أسبـاط ، عن السديّ : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } بـمـحمد صلى الله عليه وسلم يقول : كنتـم علـى طرف النار من مات منكم أُوبق فـي النار ، فبعث الله مـحمداً صلى الله عليه وسلم ، فـاستنقذكم به من تلك الـحفرة . حدثنا مـحمد بن الـحسين ، قال : ثنا أحمد بن الـمفضل ، قال : ثنا حسن بن حيّ : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } قال : عصبـية . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . يعنـي جلّ ثناؤه بقوله : كذلك كما بـين لكم ربكم فـي هذه الآيات أيها الـمؤمنون من الأوس والـخزرج ، من غِلّ اليهود ، الذي يضمرونه لكم ، وغشهم لكم ، وأمره إياكم بـما أمركم به فـيها ، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والـحال التـي كنتـم علـيها فـي جاهلـيتكم ، والتـي صرتـم إلـيها فـي إسلامكم ، يعرّفكم فـي كل ذلك مواقع نعمه قبلكم ، وصنائعه لديكم ، فكذلك يبـين سائر حججه لكم فـي تنزيـله ، وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } يعنـي : لتهتدوا إلـى سبـيـل الرشاد ، وتسلكوها فلا تضلوا عنها .