Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 105-106)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } : إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، يعني القرآن ، { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } لتقضي بين الناس ، فتفصل بينهما { بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } يعني : بما أنزل الله إليك من كتابه . { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } يقول : ولا تكن لمن خان مسلماً أو معاهداً في نفسه أو ماله ، خصيماً تخاصم عنه ، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه . { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ } يا محمدُ وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره . { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } يقول : إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنن بتركه عقوبتهم عليها ، إذا استغفروه منها ، رحيماً بهم ، فافعل ذلك أنت يا محمد ، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن . وقد قيل إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن ، ولكنه همّ بذلك ، فأمره الله بالاستغفار مما همّ به من ذلك . وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم بنو أُبَيْرِق . واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه الله بها ، فقال بعضهم : كانت سرقة سرقها . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } … إلى قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [ النساء : 114 ] فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق ، وقال أصحابه من المؤمنين للنبيّ : اعذره في الناس بلسانك ! ورمَوا بالدرع رجلاً من يهود بريئاً . حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه . حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ، قال : ثنا محمد بن سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بِشر وبُشَير مبشِّر ، وكان بشير رجلاً منافقاً ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله إلى بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر ، قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ، فقال : @ أوَ كُلَّما قالَ الرِّجالُ قَصِيدَةً أضِمُوا وقالُوا ابنُ الأبَيْرِقِ قالَهَا @@ قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدَّرمك ، ابتاع الرجل منهم ، فخصّ به نفسه ، فأما العيال : فإنما طعامهم التمر والشعير . فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك ، فجعله في مشرَبة له ، وفي المشربة سلاح له : درعان وسيفاهما وما يصلحهما . فَعُدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعَّلمْ أنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بسلاحنا وطعامنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم . قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ! رجل منا له صلاح وإسلام . فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ، ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة ! قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ! فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقلت : يا رسول الله ، إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردّوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأنْظُرُ في ذلك " فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثَبَت . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بالسَّرِقَةِ على غيرِ بَيِّنَةٍ وَلا ثَبَتٍ ! " قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . فأتيت عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } يعني : بني أبيرق ، { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ } أي مما قلت لقتادة ، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } [ النساء : 106 - 107 ] أي بني أبيرق { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ النساء : 107 - 108 ] … إلى قوله : { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] : أي أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم ، { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 111 - 112 ] قولهم للبيد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } [ النساء : 113 ] يعني أسيراً وأصحابه . { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] … إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 114 ] ، فلما نزل القرآن أتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح ، فردّه إلى رفاعة . قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح ، قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . قال : فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً . فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل ، فأنزل الله فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 115 ] … إلى قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً بَعِيداً } [ النساء : 116 ] . فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر . فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالأبطح ، ثم قالت : أهديت إليّ شعر حسان ! ما كنت تأتيني بخير . حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } يقول : بِمَا أنزل الله عليك وبيَّن لك ، { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } فقرأ إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } [ النساء : 107 ] . ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما همّ به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من عذره ، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق ، ووعظ نبيه صلى الله عليه وسلم وحذّره أن يكون للخائنين خصيماً . وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار ، ثم أحد بني ظَفَر ، سرق درعاً لعمه كانت وديعة عنده ، ثم قذفها على يهوديّ كان يغشاهم ، يقال له زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم ، وكان نبيّ الله عليه الصلاة والسلام قد همّ بعُذره ، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل ، فقال : { وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } [ النساء : 107 ] إلى قوله : { هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ } [ النساء : 109 ] يعني بذلك قومه ، { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] ، وكان طعمة قذف بها بريئاً . فلما بين الله شأن طعمة ، نافق ولحق بالمشركين بمكة ، فأنزل الله في شأنه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] . حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } وذلك أن نفراً من الأنصار غزواً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأَظَنَّ بها رجلاً من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي . فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى السارق ذلك ، عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ، فقالوا : يا نبيّ الله إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ، وقد أُحطنا بذلك علماً ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } يقول : احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب ، { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } [ النساء : 106 - 107 ] … الآية ، ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ } [ النساء : 108 ] … إلى قوله : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب . ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] يعني : السارق والذين يجادلون عن السارق . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } … الآية . قال : كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهوديّ ، فقال اليهوديّ : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ ! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرّئونه ويطرحونه على اليهوديّ ويقولون : يا رسول الله ، إن هذا اليهوديّ الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ! قال : حتى مال عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك ، فقال : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ } بما قلت لهذا اليهوديّ ، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } . ثم أقبل على جيرانه فقال : { هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [ النساء : 109 ] فقرأ حتى بلغ : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] . قال : ثم عرض التوبة فقال : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } [ النساء : 110 - 111 ] فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء : 111 - 112 ] وإن كان مشركاً . { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] فقرأ حتى بلغ إلى قوله : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } [ النساء : 115 ] قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له . وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتاً ليسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله فذلك قوله : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدْىٰ } [ النساء : 115 ] فقرأ حتى بلغ : { وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] . ويقال : هو طعمة بن أبيرق ، وكان نازلاً في بني ظفر . وقال آخرون : بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } جحوده وديعة كان أُودِعَها . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } قال : أمَّا « ما أراك الله » : فما أوحي الله إليك قال : نزلت في طعمة بن أبيرق ، واستودعه رجل من اليهود درعاً ، فانطلق بها إلى داره ، فحفر لها اليهودي ثم دفنها ، فخالف إليها طعمة ، فاحتفر عنها ، فأخذها . فلما جاء اليهوديّ يطلب درعه كَافَرَهُ عنها ، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته ، فقال : انطلقوا معي ، فإني أعرف وضع الدرع ! فلما علم بهم طعمة ، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري ، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها ، وقع به طعمة وأناس من قومه ، فسبوه ، وقال : أتخوّنونني ؟ فانطلقوا يطلبونها في داره ، فأشرفوا على بيت أبي مليل ، فإذا هم بالدرع ، وقال طعمة : أخذها أبو مليل . وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي ، فإني إن أُكَّذب كذب على أهل المدينة اليهودي . فأتاه أناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله جادل عن طعمة وأَكْذِب اليهودي ! فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، فأنزل الله عليه : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ } مما أردت { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } [ النساء : 106 - 107 ] . ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه ، فقال : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] يقول : يقولون ما لا يرضى من القول ، { هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ } [ النساء : 109 ] . ثم دعا إلى التوبة ، فقال : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] . ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ … وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 111 - 112 ] . ثم ذكر الأنصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله : { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] يقول : النبوّة . ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة ، فقال : { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [ النساء : 114 ] . فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن ، هرب حتى أتى مكة ، فكفر بعد إسلامه . ونزل على الحجاج بن علاط السلمي ، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه ، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده ، فنظر فإذا هو بطعمة ، فقال : ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني ؟ ! فأخرجه فمات بحرّة بني سليم كافراً ، وأنزل الله فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ } [ النساء : 115 ] … إلى : { وَسَآءتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشرُبه له فيها درع ، وخرج فغاب . فلما قدم الأنصاريّ فتح مشربته فلم يجد الدرع ، فسأل عنها طعمة بن أبيرق ، فرمي بها رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين . فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه فلما رأى ذلك قومه أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النساء : 105 - 107 ] يعني طعمة بن أبيرق وقومه ، { هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة . { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] محمد وطعمة وقومه ، قال : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } … الآية ، طعمة . { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء : 111 ] يعني : زيد بن السمين ، { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] طعمة بن أبيرق . { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } [ النساء : 113 ] يا محمد ، { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } [ النساء : 113 ] قوم طعمة ابن أبيرق . { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] محمد صلى الله عليه وسلم . { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ } [ النساء : 114 ] حتى تنقضي الآية للناس عامة . { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهَدْىِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 115 ] … الآية . قال : لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه ، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهزيّ ثم السلمي حليف لبني عبد الدار ، فنقبها ، فسقط عليه حجر فَلِحجَ . فلما أصبح أخرجوه من مكة ، فخرج فلقي ركباً من بهراء من قضاعة ، فعرض لهم ، فقال : ابن سبيل منقطع به ! فحملوه حتى إذا جنّ عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ، ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه ، فقذفوه بالحجارة حتى مات . قال ابن جريج : فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] أنزلت في طعمة بن أبيرق ، يقولون : إنه رَمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخزرجي ، فلما نزل القرآن لحق بقريش ، فكان من أمره ما كان . حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، ثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } يقول : بما أنزل عليك وأراكه في كتابه . ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استودع درعاً فجحد صاحبها ، فخوّنه رجال من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب له قومه ، وأتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : خوّنوا صاحبنا وهو أمين مسلم ، فاعذره يا نبيّ الله وازجر عنه ! فقام نبيّ الله فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه ، فأنزل الله بيان ذلك فقال : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ } … إلى قوله : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] فبين الله خيانته . فلحق بالمشركين من أهل مكة ، وارتدّ عن الإسلام ، فنزل فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } [ النساء : 115 ] إلى قوله : { وَسَآءتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] . قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الآية قول من قال : كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية جحوده ما أودع ، لأن ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره . ]