Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 11-11)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يعنـي جلّ ثناؤه بقوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } : بعهد الله إلـيكم ، { فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ } يقول يعهد إلـيكم ربكم إذا مات الـميت منكم ، وخـلف أولاداً ذكوراً وإناثاً ، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بـينهم ، للذكر منهم مثل حظّ الأنثـيـين ، إذا لـم يكن له وارث غيرهم ، سواء فـيه صغار ولده وكبـارهم وإناثهم فـي أن جميع ذلك بـينهم للذكر مثل حظّ الأنثـيـين ورفع قوله : « مثل » ، بـالصفة ، وهي اللام التـي فـي قوله : { لِلذّكْرِ } ولـم ينصب بقوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } لأن الوصية فـي هذا الـموضع عهد وإعلام بـمعنى القول ، والقول لا يقع علـى الأسماء الـمخبر عنها ، فكأنه قـيـل : يقول الله تعالـى ذكره : لكم فـي أولادكم للذكر منهم مثل حظّ الأنثـيـين . وقد ذكر أن هذه الآية نزلت علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم تبـيـيناً من الله الواجب من الـحكم فـي ميراث من مات وخـلف ورثة علـى ما بـيّن ، لأن أهل الـجاهلـية كانوا لا يقسمون من ميراث الـميت لأحد من ورثته بعده مـمن كان لا يلاقـي العدوّ ولا يقاتل فـي الـحروب من صغار ولده ، ولا للنساء منهم ، وكانو يخصون بذلك الـمقاتلة دون الذرية ، فأخبر الله جلّ ثناؤه أن ما خـلفه الـميت بـين من سمى وفرض له ميراثاً فـي هذه الآية وفـي آخر هذه السورة ، فقال فـي صغار ولد الـميت وكبـارهم وإناثهم : لهم ميراث أبـيهم إذا لـم يكن له وارث غيرهم ، للذكر مثل حظّ الأنثـيـين . ذكر من قال ذلك : حدثنا مـحمد بن الـحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسبـاط ، عن السديّ : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلأُنْثَيَيْنِ } كان أهل الـجاهلـية لا يورّثون الـجواري ، ولا الصغار من الغلـمان ، لا يرث الرجلَ من ولده إلا من أطاق القتال . فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة يقال لها أم كُحة وترك خمس أخوت ، فجاءت الورثة يأخذون ماله ، فشكت أم كحة ذلك إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تبـارك وتعالـى هذه الآية : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } ثم قال فـي أم كحة : { وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ } [ النساء : 12 ] . حدثنا مـحمد بن سعد ، قال : ثنـي أبـي ، قال : ثنـي عمي ، قال : ثنـي أبـي ، عن أبـيه ، عن ابن عبـاس : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلأُنْثَيَيْنِ } وذلك أنه لـما نزلت الفرائض التـي فرض الله فـيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم ، وقالوا : تعطى الـمرأة الربع والثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، ولـيس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنـيـمة ! اسكتوا عن هذا الـحديث ، لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فـيغيره ! فقال بعضهم : يا رسول الله ، أنعطي الـجارية نصف ما ترك أبوها ، ولـيست تركب الفرس ، ولا تقاتل القوم ، ونعطي الصبـيّ الـميراث ، ولـيس يغنـي شيئاً ؟ وكانوا يفعلون ذلك فـي الـجاهلـية ، لا يعطون الـميراث إلا من قاتل ، ويعطونه الأكبر فـالأكبر . وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل أن الـمال كان للولد قبل نزوله ، وللوالدين الوصية ، فنسخ الله تبـارك وتعالـى ذلك بهذه الآية . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد أو عطاء ، عن ابن عبـاس فـي قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ } قال : كان الـمال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربـين ، فنسخ الله من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثـيـين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد ، وللزوج الشطر والربع ، وللزوجة الربع والثمن . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلأُنْثَيَيْنِ } قال : كان ابن عبـاس يقول : كان الـمال وكانت الوصية للوالدين والأقربـين ، فنسح الله تبـارك وتعالـى من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثـيـين ، ثم ذكر نـحوه . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج ، عن ابن جريج ، عن مـجاهد ، عن ابن عبـاس مثله . ورُوي عن جابر بن عبد الله ما : حدثنا به مـحمد بن الـمثنى ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن مـحمد بن الـمنكدر ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، قال : دخـل علـيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض ، فتوضأ ونضح علـيّ من وَضوئه فأفقت ، فقلت : يا رسول الله إنـما يرثنـي كلالةٌ ، فكيف بـالـميراث ؟ فنزلت آية الفرائض . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـي حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثنـي مـحمد بن الـمنكدر عن جابر ، قال : عادنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فـي بنـي سملة يـمشيان ، فوجدانـي لا أعقل ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم رشّ علـيّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أصنع فـي مالـي ؟ فنزلت { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ } … الآية . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } . يعنـي بقوله : { فَإِن كُنَّ } فإن كان الـمتروكات نساء فوق اثنتـين . ويعنـي بقول نِساء : بنات الـميت فوق اثنتـين ، يقول : أكثر فـي العدد من اثنتـين . { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } يقول : فلبناته الثلثان مـما ترك بعده من ميراثه دون سائر ورثته إذا لـم يكن الـميت خـلف ولداً ذكراً معهن . واختلف أهل العربـية فـي الـمعنـيّ بقوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } فقال بعض نـحويـي البصرة بنـحو الذي قلنا : فإن كان الـمتروكات نساء ، وهو أيضاً قول بعض نـحويـي الكوفة . وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : فإن كان الأولاد نساء . وقال : إنـما ذكر الله الأولاد ، فقال : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ } ثم قسم الوصية ، فقال : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } وإن كان الأولاد واحدة ترجمة منه بذلك عن الأولاد . قال أبو جعفر : والقول الأوّل الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريـين أولـى بـالصواب فـي ذلك عندي ، لأن قوله : « وإن كنّ » ، لو كان معنـياً به الأولاد ، لقـيـل : وإن كانوا ، لأن الأولاد تـجمع الذكور والإناث ، وإذا كان كذلك ، فإنـما يقال : كانوا لا كنّ . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وٰحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } . يعنـي بقوله : وإن كانت الـمتروكة ابنة واحدة ، فلها النصف ، يقول : فلتلك الواحدة نصف ما ترك الـميت من ميراثه إذا لـم يكن معها غيرها من ولد الـميت ذكر ولا أنثى . فإن قال قائل : فهذا فرض الواحدة من النساء ، وما فوق الاثنتـين ، فأين فريضة الاثنتـين ؟ قـيـل : فريضتهم بـالسنة الـمنقولة نقل الوراثة التـي لا يجوز فـيها الشكّ . وأما قوله : { وَلأَبَوَيْهِ } فإنه يعنـي : ولأبوي الـميت لكل واحد منهما السدس من تركته وما خـلف من ماله سواء فـيه الوالدة والوالد ، لا يزداد واحد منهما علـى السدس إن كان له ولد ذكراً كان الولد أو أنثى ، واحداً كان أو جماعة . فإن قال قائل : فإذ كان كذلك التأويـل ، فقد يجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة علـى السدس من ميراثه عن ولده الـميت ، وذلك إن قلته قول خلاف لـما علـيه الأمة مـجمعون من تصيـيرهم بـاقـي تركة الـميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها لوالده أجمع ؟ قـيـل : لـيس الأمر فـي ذلك كالذي ظننت ، وإنـما لكلّ واحد من أبوي الـميت السدس من تركته مع ولده ذكراً كان الولد أو أنثى ، واحداً كان أو جماعة ، فريضة من الله له مسماة ، فإن زيد علـى ذلك من بقـية النصف مع الابنة الواحدة إذا لـم يكن غيره وغير ابنة للـميت واحدة فإنـما زيدها ثانـياً لقرب عصبة الـميت إلـيه ، إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض ، فلأولـي عصبة الـميت وأقربهم إلـيه بحكم ذلك لها علـى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الأب أقرب عصبة ابنة وأولاها به إذا لـم يكن لابنه الـميت ابن . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ ٱلثُّلُثُ } . يعنـي جلّ ثناؤه بقوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ } : فإن لـم يكن للـميت ولد ذكر ولا أنثى ، وورثه أبواه دون غيرهما من ولد وارث { فَلاِمّهِ ٱلثُّلُثُ } يقول : فلأمه من تركته وما خـلف بعده ثلث جميع ذلك . فإن قال قائل : فمن الذي له الثلثان الآخران ؟ قـيـل له الأب . فإن قال قائل : بـماذا ؟ قلت : بأنه أقرب أهل الـميت إلـيه ، ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان البـاقـيان ، إذ كان قد بـين علـى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبـاده أن كل ميت فأقرب عصبته به أولـى بـميراثه بعد إعطاء ذوي السهام الـمفروضة سهامهم من ميراثه . وهذه العلة هي العلة التـي من أجلها سمى للأم ما سمى لها ، إذا لـم يكن الـميت خـلف وارثاً غير أبويه ، لأن الأم لـيست بعصبة فـي حال للـميت ، فبـين الله جلّ ثناؤه لعبـاده ما فرض لها من ميراث ولدها الـميت ، وترك ذكر من له الثلثان البـاقـيان منه معها ، إذ كان قد عرّفهم فـي جملة بـيانه لهم من له بقايا تركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم ، وكان بـيانه ذلك معيناً لهم علـى تكرير حكمه مع كل من قسم له حقاً من ميراث ميت وسمَّى له منه سهماً . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ ٱلسُّدُسُ } . إن قال قائل : وما الـمعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة ، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد ؟ قلت : اختلاف حكمهما مع الإخوة الـجماعة والأخ الواحد ، فكان فـي إبـانة الله جلّ ثناؤه لعبـاده حكمهما فـيـما يرثان من ولدهما الـميت مع إخوته غنى ، وكفـاية عن أن حكمهما فـيـما ورثا منه غير متغير عما كان لهما ، ولا أخ للـميت ، ولا وارث غيرهما ، إذ كان معلوماً عندهم أن كل مستـحقّ حقاً بقضاء الله ذلك له ، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه جلّ ثناؤه ، عما قضى به له إلـى غيره ، إلا بنقل الله ذلك عنه إلـى من نقله إلـيه من خـلقه ، فكان فـي فرضه تعالـى ذكره للأم ما فرض ، إذا لـم يكن لولدها الـميت وارث غيرها وغير والده ، لوائح الدلالة الواضحة للـخـلق أن ذلك الـمفروض هو ثلث مال ولدها الـميت حقّ لها واجب ، حتـى يغير ذلك الفرض من فرض لها ، فلـما غير تعالـى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الـجماعة وترك تغيـيره مع الأخ الواحد ، علـم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا فـي الـحال التـي غيره فـيها من لزم العبـاد طاعته دون غيرها من الأحوال . ثم اختلف أهل التأويـل فـي عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالـى ذكره بقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } فقال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علـماء أهل الإسلام فـي كل زمان : عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ ٱلسُّدُسُ } اثنـين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أنثـيـين كانتا أو كنّ إناثاً ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكوراً ، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى . واعتلّ كثـير مـمن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بـيان الله جلّ ثناؤه علـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فنقلته أمة نبـيه نقلاً مستفـيضاً قطع العذر مـجيئه ، ودفع الشكّ فـيه عن قلوب الـخـلق وروده . ورُوي عن ابن عبـاس رضي الله عنهما أنه كان يقول : بل عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } : جماعة أقلها ثلاثة . وكان ينكر أن يكون الله جل ثناؤه حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة ، فكان يقول فـي أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقـي فللأب ، كما قال أهل العلـم فـي أبوين وأخ واحد . ذكر الرواية عنه بذلك : حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم ، قال : ثنا ابن أبـي فديك ، قال : ثنـي ابن أبـي ذئب ، عن شعبة مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس : أنه دخـل علـى عثمان رضي الله عنه ، فقال : لـم صار الأخوان يردّان الأم إلـى السدس ، وإنـما قال الله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } والأخوان فـي لسان قومك وكلام قومك لـيسا بإخوة ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : هل أستطيع نقض أمر كان قبلـي ، وتوارثه الناس ، ومضى فـي الأمصار ؟ . قل أبو جعفر : والصواب من القول فـي ذلك عندي أن الـمعنـي بقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } اثنان من إخوة الـميت فصاعداً ، علـى ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله ابن عبـاس رضي الله عنهما ، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الـحجة وإنكارهم ما قاله ابن عبـاس فـي ذلك . فإن قال قائل : وكيف قـيـل فـي الأخوين إخوة ، وقد علـمت أن للأخوين فـي منطق العرب مثالاً لا يشبه مثال الإخوة فـي منطقها ؟ قـيـل : إن ذلك وإن كان كذلك ، فإن من شأنها التألـيف بـين الكلامين بتقارب معنـيـيهما وإن اختلفـا فـي بعض وجوههما . فلـما كان ذلك كذلك ، وكان مستفـيضاً فـي منطقها منتشراً مستعملاً فـي كلامها : ضربت من عبد الله وعمرو رؤوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما ، وكان ذلك أشدّ استفـاضة فـي منطقها من أن يقال : أوجعت منهما ظهرهما ، وإن كان مقولاً : أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق : @ بِمَا في فُؤَادَيْنَا مِنَ الحب والهوى فَـيَبْرَأُ مِنْهَاضُ الفُؤَادِ الـمَشَغَّفُ @@ غير أن ذلك وإن كان مقولاً ، فأفصح منه : بـما فـي أفئدتنا ، كما قال جلّ ثناؤه : { إِن تَتُوبَا إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } . فلـما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان فـي الإنسان واحداً إذا ضمّ إلـى الواحد منه آخر من إنسان آخر ، فصار اثنـين من اثنـين ، فلفظ الـجمع أفصح فـي منطقها وأشهر فـي كلامها ، وكان الأخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفـين أشبه معناهما معنى ما كان فـي الإنسان من أعضائه واحداً لا ثانـي له ، فأخرج أنثـيـيهما بلفظ أنثى العضوين اللذين وصفت ، فقـيـل إخوة فـي معنى الأخوين ، كما قـيـل ظهور فـي معنى الظهرين ، وأفواه فـي معنى فموين ، وقلوب فـي معنى قلبـين . وقد قال بعض النـحويـين : إنـما قـيـل إخوة ، لأن أقلّ الـجمع اثنان ، وذلك أنه إذا ضمّ شيء إلـى شيء صارا جميعاً بعد أن كانا فردين فجمعاً ، لـيعلـم أن الاثنـين جمع . وهذا وإن كان كذلك فـي الـمعنى ، فلـيس بعلة تنبىء عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملاً مستفـيضاً علـى ألسن العرب لاثنـينه بـمثال ، وصورة غير مثال ثلاثة فصاعداً منه ، وصورتها ، لأن من قال أخواك قاماً ، فلا شكّ أنه قد علـم أن كل واحد من الأخوين فرد ضمّ أحدهما إلـى الآخر ، فصارا جميعاً بعد أن كانا شتـى عنوان الأمر . وإن كان كذلك فلا تستـجيز العرب فـي كلامها أن يقال : أخواك قاموا ، فـيخرج قولهم : قاموا ، وهو لفظ للـخبر عن الـجميع خبراً عن الأخوين وهما بلفظ الاثنـين ، لأن لكل ما جرى به الكلام علـى ألسنتهم مثالاً معروفـاً عندهم ، وصورة إذا غير مغير ما قد عرفوه فـيهم أنكروه ، فكذلك الأخوان وإن كان مـجموعين ضمّ أحدهما إلـى صاحبه ، فلهما مثال فـي الـمنطق ، وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعداً وصورتهم ، فغير جائز أن يغير أحدهما إلـى الآخر إلا بـمعنى مفهوم . وإذا كان ذلك كذلك فلا قول أولـى بـالصحة مـما قلنا قبل . فإن قال قائل : ولـم نقصت الأم عن ثلثها بـمصير إخوة الـميت معها اثنـين فصاعداً ؟ قـيـل : اختلفت العلـماء فـي ذلك ، فقال بعضهم : نقصت الأم عن ذلك دون الأب ، لأن علـى الأب مؤنهم دون أمهم . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ ٱلسُّدُسُ } أنزلوا الأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك . وكان أهل العلـم يرون أنهم إنـما حجبوا أمهم من الثلث ، لأن أبـاهم يـلـي نكاحهم ، والنفقة علـيهم دون أمهم . وقال آخرون : بل نقصت الأم السدس وقصر بها علـى سدس واحد معونة لإخوة الـميت بـالسدس الذي حجبوا أمهم عنه . ذكر من قال ذلك : حدثنا الـحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبـيه ، عن ابن عبـاس ، قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم إنـما حجبوا أمهم عنه لـيكون لهم دون أمهم . وقد روي عن ابن عبـاس خلاف هذا القول ، وذلك ما : حدثنـي يونس ، قال : أخبرنا ابن عيـينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الـحسن بن مـحمد ، عن ابن عبـاس ، قال : الكلالة : من لا ولد له ولا والد . قال أبو جعفر : وأولـى ذلك بـالصواب أن يقال فـي ذلك : إن الله تعالـى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس لـما هو أعلـم به من مصلـحة خـلقه . وقد يجوز أن يكون ذلك كان لـما ألزم الآبـاء لأولادهم ، وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك ، ولـيس ذلك مـما كلفنا علـمه ، وإنـما أمرنا بـالعمل بـما علـمنا . وأما الذي روي عن طاووس عن ابن عبـاس ، فقول لـما علـيه الأمة مخالف ، وذلك أنه لا خلاف بـين الـجميع أن لا ميراث لأخي ميت مع والده ، فكفـى إجماعهم علـى خلافه شاهداً علـى فساده . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } . يعنـي جلّ ثناؤه بقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أن الذي قسم الله تبـارك وتعالـى لولد الـميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفـاته ، إنـما يقسمه لهم علـى ما قسمه لهم فـي هذه الآية من بعد قضاء دين الـميت الذي مات وهو علـيه من تركته ومن بعد تنفـيذ وصيته فـي بـابها ، بعد قضاء دينه كله . فلـم يجعل تعالـى ذكره لأحد من ورثة الـميت ولا لأحد مـمن أوصى له بشيء إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته ، وإن أحاط بجميع ذلك . ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فـيـما بقـي لـما أوصى لهم به ما لـم يجاوز ذلك ثلثه ، فإن جاوز ذلك ثلثه جعل الـخيار فـي إجازة ما زاد علـى الثلث من ذلك أو ردّه إلـى ورثته ، إن أحبوا أجازوا الزيادة علـى ثلث ذلك ، وإن شاءوا ردّوه فأما ما كان من ذلك إلـى الثلث فهو ماض علـيهم . وعلـى كل ما قلنا من ذلك الأمة مـجمعة . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبر ، وهو ما : حدثنا مـحمد بن بشار ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سفـيان ، عن أبـي إسحاق ، عن الـحرث الأعور ، عن علـيّ رضي الله عنه قال : إنكم تقرؤون هذه الآية : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بـالدين قبل الوصية . حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : ثنا زكرياء بن أبـي زائدة ، عن أبـي إسحاق ، عن الـحرث ، عن علـيّ رضوان الله علـيه ، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم ، بـمثله . حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا حفص بن غياث ، قال : ثنا أشعث ، عن أبـي إسحاق ، عن الـحرث ، عن علـيّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن الـمغيرة ، عن ابن مـجاهد ، عن أبـيه : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } قال : يبدأ بـالدين قبل الوصية . واختلفت القراء فـي قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والعراق : { يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ، وقرأ بعض أهل مكة والشام والكوفة : « يُوصَى بِها » علـى معنى ما لـم يسمّ فـاعله . قال أبو جعفر : وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ ذلك : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } علـى مذهب ما قد سمي فـاعله ، لأن الآية كلها خبر عمن قد سمي فـاعله ، ألا ترى أنه يقول : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وٰحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } ؟ فكذلك الذي هو أولـى بقوله : { يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أن يكون خبراً عمن قد سمي فـاعله لأن تأويـل الكلام : ولأبويه لكلّ واحد منهما السدس مـما ترك إن كان له ولد ، من بعد وصية يوصي بها ، أو دين يُقْضَى عنه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } . يعنـي جلّ ثناؤه بقوله : { ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } هؤلاء الذين أوصاكم الله به فـيهم من قسمة ميراث ميتكم فـيهم علـى ما سمَّى لكم وبـينه فـي هذه الآية { ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } يقول : أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتكم أن تعطوهموها ، فإنكم لا تعلـمون أيهم أدنى وأشدّ نفعاً لكم فـي عاجل دنـياكم وآجل أخراكم . واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } فقال بعضهم : يعنـي بذلك : أيهم أقرب لكم نفعاً فـي الآخرة . ذكر من قال ذلك : حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالـح ، قال : ثنـي معاوية بن صالـح ، عن علـي بن أبـي طلـحة : عن ابن عبـاس ، قوله : { ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } يقول : أطوعكم لله من الأبـاء والأبناء ، أرفعكم درجة يوم القـيامة ، لأن الله سبحانه يشفِّع الـمؤمنـين بعضهم فـي بعض . وقال آخرون : معنى ذلك : لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فـي الدنـيا . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد ، فـي قوله : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } فـي الدنـيا . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد ، مثله . حدثنـي مـحمد بن الـحسين ، قال : ثنا أحمد بن الـمفضل ، قال : ثنا أسبـاط ، عن السدي ، قوله : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قال بعضهم : فـي نفع الآخرة ، وقال بعضهم : فـي نفع الدنـيا . وقال آخرون فـي ذلك بـما قلنا . ذكر من قال ذلك : حدثنـي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فـي قوله : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قال : أيهم خير لكم فـي الدين والدنـيا الوالد أو الولد الذين يرثونكم لـم يدخـل علـيكم غيرهم ، فرضي لهم الـمواريث لـم يأت بآخرين يشركونهم فـي أموالكم . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } . يعنـي بقوله جلّ ثناؤه : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } وإن كان له إخوة فلأمه السدس ، فريضةً ، يقول : سهاماً معلومة موقتة بـينها الله لهم . ونصب قوله : « فريضة » علـى الـمصدر من قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَرِيضَةً } فأخرج فريضة من معنى الكلام ، إذ كان معناه ما وصفت . وقد يجوز أن يكون نصبه علـى الـخروج من قوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس فريضة ، فتكون الفريضة منصوبة علـى الـخروج من قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ ٱلسُّدُسُ } كما تقول : هو لك هبة ، وهو لك صدقة منـي علـيك . وأما قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فإنه يعنـي جلّ ثناؤه : إن الله لـم يزل ذا علـم بـما يصلـح خـلقه أيها الناس ، فـانتهوا إلـى ما يأمركم يصلـح لكم أموركم . { حَكِيماً } يقول : لـم يزل ذا حكمة فـي تدبـيره وهو كذلك فـيـما يقسم لبعضكم من ميراث بعض وفـيـما يقضي بـينكم من الأحكام ، لا يدخـل حكمه خـلل ولا زلل ، لأن قضاء من لا يخفـى علـيه مواضع الـمصلـحة فـي البدء والعاقبة .