Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولقوله جلّ ثناؤه : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ } وجهان من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم . فيكون قوله : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } من صلة « الذين » . وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون . قوله : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } . والآخر منهما : أن يكون معناه : من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه . فتكون « من » محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } عليها ، وذلك أن « مِن » لو ذكرت في الكلام كانت بعضاً لـ « مَنْ » ، فاكتفى بدلالة « مِنْ » عليها ، والعرب تقول : منا من يقول ذلك ، ومنا لا يقوله ، بمعنى : منا من يقول ذاك ، ومنا من لا يقوله ، فتحذف « من » اكتفاء بدلالة من عليه ، كما قال ذو الرمة : @ فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ وآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ @@ يعني : ومنهم من دمعه . وكما قال الله تبارك وتعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ } غير أنهم كانوا يقولون : المضمر في ذلك « القوم » ، كأن معناه عندهم : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، ويقولون : نظير قول النابغة : @ كأنَّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ @@ يعني : كأنك جمل من جمال أقيشٍ . فأما نحويو الكوفة ، فينكرون أن يكون المضمر مع « مِن » إلا « مَن « أو ما أشبهها . والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } من صلة الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، لأن الخبرين جميعاً والصفتين من صفة نوع واحد من الناس ، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } . وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك . وأما تأويل قوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } فإنه يقول : يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله ، والكلم جماع كلمة . وكان مجاهد يقول : عنى بالكلم : التوراة . حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } : تبديل اليهود التوراة . حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . وأما قوله : { عَن مَّوٰضِعِهِ } فإنه يعني : عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه . القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } . يعني بذلك جلّ ثناؤه : من الذين هادوا يقولون : سمعنا يا محمد قولك ، وعصينا أمرك . كما : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد ، في قوله : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } قال : قالت اليهود : سمعنا ما تقول ، ولا نطيعك . حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } قالوا : قد سمعنا ، ولكن لا نطيعك . القول في تأويل قوله تعالى : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } . وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره ، أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول ، ويقولون له : اسمع منا غير مسمع ، كقول القائل للرجل يسبه : اسمع لا أسمعك الله . كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال : هذا قول أهل الكتاب يهود ، كهيئة ما يقول الإنسان : اسمع لاسمعت ، أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشتماً له واستهزاء . حُدثت عن المنجاب ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال : يقولون لك : واسمع لاسمعت . وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى : واسمع غير مقبول منك . ولو كان ذلك معناه لقيل : واسمع غير مسموع ، ولكن معناه : واسمع لاتسمع ، ولكن قال الله تعالى ذكره : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } يقول : غير مقبول ما تقول ، فهو كما : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال : غير مستمع . قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } : غير مقبول ما تقول . حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . حدثنا الحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال : كما تقول : اسمع غير مسموع منك . وحدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان ناس منهم يقولون : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } كقولك : اسمع غير صاغ . القول في تأويل قوله تعالى : { وَرٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } . يعني بقوله : { وَرٰعِنَا } : أي راعنا سمعك ، افهم عنا وأفهمنا . وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته . ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } يعني : تحريكاً منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه ، واستخفافاً منهم بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } . كما : حدثني الحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك ! يستهزئون بذلك ، فكانت اليهود قبيحة ، فقال : راعنا سمعك ليًّا بألسنتهم والليّ : تحريكهم ألسنتهم بذلك ، { وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } . حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك ! يلوي بذلك لسانه ، يعني : يحرّف معناه . حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } … إلى : { وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون في الدين . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَرٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } قال : « راعنا » طعنهم في الدين ، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه . قال : والراعن : الخطأ من الكلام . حُدثت عن المنجاب ، قال : ثنا بشر ، أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } قال : تحريفاً بالكذب . القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } . يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبيّ لله : سمعنا يا محمد قولك ، وأطعنا أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله ، واسمع منا ، وانظرنا ما نقول ، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } يقول : لكان ذلك خيراً لهم عند الله وأقوم ، يقول : وأعدل وأصوب في القول . وهو من الاستقامة من قول الله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } بمعنى : وأصوب قيلاً . كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } قال : يقولون : اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا ، وانظرنا فلا تعجل علينا . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، قوله : { وَٱنْظُرْنَا } قال : اسمع منا . حدثنا القاسم ، ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَٱنْظُرْنَا } قال : أفهمنا . حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَٱنْظُرْنَا } قال : أفهمنا . قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى : { وَٱنْظُرْنَا } إلى : اسمع منا ، وتوجيه مجاهد ذلك إلى : أفهمنا ، ما لا نعرف في كلام العرب ، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا : انتظرنا نفهم ما تقول ، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا ، فيكون ذلك معنى مفهوماً وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها ، فلا نعرف « انظرنا » في كلام العرب إلا بمعنى : انتظرنا وانظر إلينا ، فأما « انظرنا » بمعنى انتظرنا ، فمنه قول الحطيئة : @ وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنَّ دِرَّتَكُمْ يَوْماً يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي @@ وأما انظرنا بمعنى : انظر إلينا ، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات : @ ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ نَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظِّباءُ @@ بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء . القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . يعني بذلك : ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد ، واتباع الحقّ بكفرهم ، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } يقول : فلا يصدّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم ، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً ، يقول : لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيماناً قليلاً . كما : حدثنا الحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } قال : لا يؤمنون هم إلا قليلاً . وقد بينا وجه ذلك بعلله في سورة البقرة .