Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 44, Ayat: 54-57)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى ذكره : كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالناهم الجنات ، وإلباسناهم فيها السندس والإستبرق ، كذلك أكرمناهم بأن زوّجناهم أيضاً فيها حوراً من النساء ، وهن النقيات البياض ، واحدتهنّ : حَوْراء . وكان مجاهد يقول في معنى الحُور ، ما : حدثني به محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } قال : أنكحناهم حوراً . قال : والحُور : اللاتي يحار فيهنّ الطرف بادٍ مُخُّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد ، وصفاء اللون ، وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها : أنه يحار فيها الطرف ، قول لا معنى له في كلام العرب ، لأن الحُور إنما هو جمع حوراء ، كالحمر جمع حمراء ، والسود : جمع سوداء ، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض ، كما قيل للنقيّ البياض من الطعام الحُوَّاري . وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل . وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { كَذَلكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } قال : بيضاء عيناء ، قال : وفي قراءة ابن مسعود « بعِيسٍ عِينٍ » . حدثنا بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { بِحُورٍ عِينٍ } قال : بيض عين ، قال : وفي حرف ابن مسعود « بعِيسٍ عِينٍ » . وقرأ ابن مسعود هذه ، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد ، لأن العيس عند العرب جمع عيساء ، وهي البيضاء من الإبل ، كما قال الأعشي : @ وَمَهْمَةً نازِحٍ تَعْوِي الذّئابُ بِهِ كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرَّحْلِ نَعَّابا @@ يعني بالأعيس : جملاً أبيض . فأما العين فإنها جمع عيناء ، وهي العظيمة العينين من النساء . وقوله : { يَدْعُونَ فِيها … } الآية ، يقول : يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلّ نوع من فواكه الجنة اشتهوه ، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه ، ومن غائلة أذاه ومكروهه ، يقول : ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها ، وهم يخافون مكروه عاقبتها ، وغب أذاها مع نفادها من عندهم ، وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات . وكان قتادة يوجه تأويل قوله : { آمنين } إلى ما : حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة { يَدْعُونَ فِيهَا بكُلّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ } أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان . وقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولى } يقول تعالى ذكره : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا . وكان بعض أهل العربية يوجه « إلاّ » في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى ، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله تعالى ذكره : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَف } بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم ، لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاماً في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره . وإذا كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت بقوله : { إلاَّ المَوْتَةَ } الأُولى موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ، لأن الله عزّ وجلّ قد آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه . وإنما جاز أن توضع « إلا » في موضع « بعد » لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً بعد كلام الرجل الذي عند عمرو . وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو ، فبعد ، وإلا : متقاربتا المعنى في هذا الموضع . ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ، لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحياناً ويكذب ، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب : @ إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها وَخالَفَها فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ @@ فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها ، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان ، وإنما أدرك استدلالاً أو خبراً ، كما قال الشاعر : @ فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ في الفارِسِيّ المُسَرَّدِ @@ بمعنى : أيقنوا بألفى مدجَّج واعلموا ، فوضع الظنّ موضع اليقين ، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا رأوهم ، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب ، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها ، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني ، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه ، فكذلك قوله : لا يَذُوقُون فِيها المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولى وضعت « إلا » في موضع « بعد » لما نصف من تقارب معنى « إلا » ، و « بعد » في هذا الموضع ، وكذلك { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ } إنما معناه : بعد الذي سلف منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت « إلا » في هذا الموضع إلى معنى سوى ، فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشدّ التباساً على من أراد علم معناها منها . وقوله : { وَوَقاهُمْ عَذَابَ الجَحِيم فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ } يقول تعالى ذكره : ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلاً يا محمد من ربك عليهم ، وإحساناً منه إليهم بذلك ، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا ، ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك ، لم يقهم عذاب الجحيم ، ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه . وقوله : { ذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ } يقول تعالى ذكره : هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات ، هو الفوز العظيم : يقول : هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم ، واتقائهم إياه ، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض ، واجتناب المحارم .