Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 25-25)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى ذكره : هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله ، وصدّوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام ، وصدّوا الهَدي معكوفاً : يقول : محبوساً عن أن يبلغ مَحِلَّه . فموضع « أن » نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف ، وإن شئت بصدّوا . وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : وصدّوا الهدي معكوفاً كراهية أن يبلغ محله . وعنى بقوله تعالى ذكره : { أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أن يبلغ محلّ نحره ، وذلك دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سَفرته تلك سبعين بدنة . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المِسْوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه ، قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق الهَدي معه سبعين بدنة وكان الناس سبعَ مئة رجل ، فكانت كلّ بدنة عن عشرة . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَن المَسْجدِ الحَرَام وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدوكْم عَن المَسْجدِ الْحَرَامِ والهَدْيَ مَعْكُوفاً } : أي محبوساً { أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وأقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ، ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحُديبية ، صدّهم المشركون ، فصالحهم نبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ، ثم يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ، ولا يخرج بأحد من أهلها ، فنحروا الهدي ، وحلقوا ، وقصَّروا ، حتى إذا كان من العام المقبل ، أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة ، فأقام بها ثلاث ليال ، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه ، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه ، فأنزل الله { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بالشَّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماتُ قِصَاصٌ } حدثني محمد بن عمارة الأسديّ وأحمد بن منصور الرمادي ، واللفظ لابن عمارة ، قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال : بعثت قريش سُهَيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العُزَّى ، وحفص بن فلان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصالحوه فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم سُهَيل بن عمرو ، قال : " قد سهَّل الله لكم من أمركم ، القوم ماتُّون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهَدي ، وأظهروا التلبية ، لعلّ ذلك يلين قلوبهم " ، فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجَّت أصواتهم بالتَّلبية ، فجاؤوا فسألوه الصلح قال : فبينما الناس قد توادعوا وفي المسلمين ناس من المشركين ، قال : فقيل به أبو سفيان قال : وإذا الوادي يسيل بالرجال قال : قال إياس ، قال سلمة : فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، فأتيت بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يسلب ولم يقتل وعفا قال : فشددنا على من في أيدي المشركين منا ، فما تركنا في أيديهم منا رجلاً إلا استنقذناه قال : وغلبنا على من في أيدينا منهم ثم إن قريشاً بعثوا سُهَيل بن عمرو ، وحويطباً ، فولوا صلحهم ، وبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم علياً في صلحه فكتب عليّ بينهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ، صالحهم على أنه لا إهلال ولا امتلال ، وعلى أنه من قَدِم مكة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حاجاً أو معتمراً ، أو يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ومن قَدِم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله وعلى أنه من جاء محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش فهو إليهم رَدٌّ ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم . فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ جاءَهُمْ مِنَّا فأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ جاءَنا مِنْهُمْ فَرَدَدْناه إلَيْهِمْ فَعَلِمَ اللَّهُ الإسْلامَ مِنْ نَفْسِهِ ، جَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً " فصالحوه على أنه يعتمر في عام قابل في هذا الشهر ، لا يدخل علينا بخيل ولا سلاح ، إلا ما يحمل المسافر في قِرابه ، يثوي فينا ثلاث ليال ، وعلى أن هذا الهَدْي حيثما حبسناه محَّله لا يقدمه علينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَحْن نَسُوقُهُ وأنْتُمْ تَرُدونَ وُجُوهَهُ " ، فسار رسول الله مع الهدي وسار الناس . حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى ، قال : أخبرني أبو مُرّة مولى أمّ هانىء ، عن ابن عمر ، قال : « كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون ، فردّوا وجوهه قال : فنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم الهدي حين حبسوه ، وهي الحُديبية ، وحلق ، وتأسّى به أُناس حين رأوه حلق ، وتربَّص آخرون ، فقالوا : لعلنا نطوف بالبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ " ، قيل : والمقصرين ، قال : " رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ " ، قيل : والمقصرين ، قال : " والمُقَصِّرِينَ " حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمر بن ذَرّ الهمداني ، عن مجاهد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر ، كلها في ذي القعدة ، يرجع في كلها إلى المدينة ، منها العمرة التي صدّ فيها الهدي ، فنحره في محله ، عند الشجرة ، وشارطوه أن يأتي في العام المقبل معتمراً ، فيدخل مكة ، فيطوف بالبيت ثلاثة أيام ، ثم يخرج ، ولا يحبسون عنه أحداً قدم معه ، ولا يخرج من مكة بأحد كان فيها قبل قدومه من المسلمين فلما كان من العام المقبل دخل مكة ، فأقام بها ثلاثاً يطوف بالبيت فلما كان اليوم الثالث قريباً من الظهر ، أرسلوا إليه : إن قومك قد آذاهم مقامك ، فنُودي في الناس : لا تغرب الشمس وفيها أحد من المسلمين قَدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه ، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة قلَّد الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث بين يديه عيناً له من خُزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من قُعَيقعان ، أتاه عينه الخزاعيّ ، فقال : إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشِيرُوا عَليَّ ، أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ على ذَرَارِي هَؤُلاءِ الَّذِينَ أعانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ ، فإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْزُونِين وإنْ لحُّوا تَكنْ عُنُقاً قَطَعَها اللَّهُ ؟ أمْ تَرَوْنَ أنَّا نَؤُمُّ البَيْتَ ، فمَنْ صَدّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ ؟ " فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله : إنا لم نأت لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فَروّحُوا إذًا " وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحداً قطّ كان أكثر مُشاورة لأصحابه من النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ بالغَمِيم في خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً ، فخُذُوا ذَاتَ اليْمِينِ " ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بُقْترة الجيش ، فانطلق يركض نذيراً لقريش ، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالثنية التي يُهبْط عليهم منها ، بركت به راحلته فقال الناس : حَلْ حَل ، فقال : ما حَلْ ؟ فقالوا : خَلأَتِ القَصْواء ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما خَلأَتْ وَما ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ ، ولَكِنَّها حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ " ، ثم قال : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسألُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ بها حُرُماتِ اللَّهِ إلاَّ أعْطَيْتُهُم إيَّاها " ، ثم زُجِرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرّضه الناس تبرّضاً ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فنزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالرِّيّ حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك جاء بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خُزاعة ، وكانوا عَيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لُؤَيّ ، وعامر بن لُؤَيّ ، قد نزلوا أعداد مياه الحُديبية معهم العوْذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنَّا لَمْ نأْتِ لِقِتال أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنا مُعْتَمِرِينَ ، وإنَّ قُرَيْشاً قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ ، وأَضَرَّتْ بِهمْ ، فإنْ شاؤوُا مادَدْناهُمْ مُدَّةً ، ويُخْلُوا بَيْنِي وَبَينَ النَّاسِ ، فإنْ أظْهَرْ فإنْ شاؤوا أن يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإلاَّ فَقَدْ جَمُّوا وَإنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لأَقُاتِلَنَّهُمْ عَلى أمْرِي هَذَا حتى تَنْفَرِدَ سالِفَتِي ، أوْ لَيُنْفِذَن اللَّهُ أمْرَهُ " فقال بديل : سنبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال : إنا جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا قال سفهاؤهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول : قال سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقام عُروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أيْ قوم ، ألستم بالولد ؟ قالوا : بلى أو لست بالوالد ؟ قالوا : بلى قال : فهل أنتم تتهموني ؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وَولدِي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى قال : فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحواً من مقالته لبُديل فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوهاً وأوباشاً من الناس خليقاً أن يفرّوا ويدعوك ، فقال أبو بكر : امصَصْ بظر اللات ، واللاتُ : طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون ، أنحن نفرّ وندعه ؟ فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو بكر ، فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنصل السيف ، وقال : أخِّر يدك عن لحيته ، فرفع رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، قال : أي غُدَرُ أو لست أسعى في غدرتك . وكان المُغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أمَّا الإسْلامُ فَقَدْ قَبِلْناهُ ، وأمَّا المَالُ فإنَّه مالُ غَدْرٍ لا حاجَةَ لَنا فِيهِ " وإن عُروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينه ، فوالله إن تنخم النبيّ صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له ، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشيّ ، والله ما رأيت مَلِكاً قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " هَذَا فُلانٌ ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له " ، فبعثت له ، واستقبله قوم يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فقام رجل منهم يقال له مِكْرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا ائته ، فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " هَذَا مِكْرِز بْنُ حَفْصٍ ، وَهُوَ رَجُلٌ فاجِرٌ " فجاء فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سُهَيل بن عمرو ، قال أيوب ، قال عكرِمة : إنه لما جاء سُهَيل ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " قال الزهري . فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب بيننا وبينك كتابا فدعا الكاتب فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " اكْتُبْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، فقال : ما الرحمن ؟ فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " اكْتُبْ : باسْمِكَ اللَّهُمَّ " ثم قال : " اكْتُبْ : هَذَا ما قاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ االلَّهِ " ، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " وَاللَّهِ إنّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإنْ كَذَّبْتُمُوني ، ولَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " قال الزهري : وذلك لقوله : " وَاللَّهِ لا يَسأَلُوني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ بِها حُرُماتِ اللَّهِ إلاَّ أعْطَيْتُهُمْ إيَّاها " فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " عَلى أنْ تُخَلُّوا بَيْنَنا وَبَينَ البَيْتِ ، فَنَطُوفُ بِهِ " قال سُهيل : والله لا تتحدّث العرب أُنا أُخِذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل ، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله ، وكيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ فبينما هم كذلك ، إذا جاء أبو جَنْدل بن سُهيل بن عمرو يرسُف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فَأَجِرْهُ لي " ، فقال : ما أنا بمجيره لك ، قال : " بلى فافعل " ، قال : ما أنا بفاعل قال صاحبه مِكْرزٍ وسهيل إلى جنبه : قد أجرناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين ، أأُردّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلماً ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ كان قد عُذّب عذاباً شديداً في الله . قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : " بلى " قلت : فلِم نعطَى الدنية في ديننا إذن ؟ قال : " إنّي رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ ناصِري " ، قلت : ألست تحدِّثنا أنا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال : " بَلى " قال : " فأخبرتك أنك تأتيه العام " قلت : لا قال : " فإنَّكَ آتِيهِ وَمُتَطَوّفٌ به " قال : ثم أتيت أبا بكر ، فقلت : أليس هذا نبيّ الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطَى الدنية في ديننا إذا ؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله ، وليس يعصِي ربه ، فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحقّ قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قال : لا ، قال : فإنك آتيه ومتطوّف به . قال الزُهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً فلما فرغ من قصته ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " قُومُوا فانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا " ، قال : فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أمّ سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أمّ سلمة : يا رسول الله أتحبّ ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحرُ بُدْنَك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم كلمة ، حتى نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه : { يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ } حتى بلغ بعِصَم الكَوَافِرِ قال : فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك قال : فنهاهم أن يردوهنّ ، وأمرهم أن يردّوا الصداق حينئذٍ قال رجل للزهريّ : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير ، رجل من قريش ، وهو مسلم ، فأرسل في طلبه رجلان ، فقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً ، فاستله الآخر فقال : والله إنه لجيد ، لقد جربت به وجربت فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه ، فضربه به حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " رأى هَذَا ذُعْراً " ، فقال : والله قتل صاحبي ، وإني والله لمقتول ، فجاء أبو بصير فقال : قد والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم ، ثم أغاثني الله منهم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " وَيْلُ امِّهِ مِسْعَرُ حَرْب لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ " فلما سمع عرف أنه سيردّه إليهم قال : فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلَّت أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } حتى بلغ { حميَةَ الجَاهِليَّةِ } وكانت حميتهم أنهم لم يقرّوا أنه نبيّ ، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت . حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه ، قال الزهريّ ، فحدثني القاسم بن محمد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألست برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " بَلى " قال أيضاً : وخرج أبو بصير والذين أسلموا من الذين رَدّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالساحل على طريق عير قريش ، فقتلوا من فيها من الكفار وتغنَّموها فلما رأى ذلك كفار قريش ، ركبٍ نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : إنها لا تغني مدتك شيئاً ، ونحنُ نقتل وتُنهب أموالُنا ، وإنا نسألك أن تدخل هؤلاء في الذين أسلموا منا في صلحك وتمنعهم ، وتحجز عنا قتالهم ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } ، ثم ساق الحديث إلى آخره ، نحو حديث ابن عبد الأعلى . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهريّ ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه ، قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية ، يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق معه هديه سبعين بدنة ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبيّ ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذُ المطافيلُ قد لبسوا جلود النمور ، ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله ، لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم قال : فقال صلى الله عليه وسلم : " يا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أهْلَكَتْهُمُ الحَرْبُ ، ماذَا عَلَيْهمْ لَوْ خَلُّوا بَيْنِي وَبَيَنَ سائِرِ العَرَب فإنْ هُمْ أصابُونِي كانَ ذلكَ الَّذِي أرَادُوا ، وَإنْ أظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِم دَخَلُوا في الإسْلامِ دَاخِرِينَ " ثم ذكر نحو حديث معمر بزيادات فيه كثيرة ، على حديث معمر تركت ذكرها . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { والهَدْيَ مَعْكُوفا أنْ يَبْلُغَ محِلَّهُ } قال : كان الهدي بذي طوى ، والحُديبية خارجة من الحرم ، نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غَوَّرت قريش عليه الماء . وقوله : { وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتَ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنْ تَطُئوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ } يقول تعالى ذكره : ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة ، وقد حبسهم المشركون بها عنكم ، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم . كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤمِناتٌ … } حتى بلغ بِغَيرِ عِلْمٍ هذا حين ردّ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يدخلوا مكة ، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ، فكره الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم ، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم . واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بها الإثم . ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنْ تَطَئوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ } قال : إثم بغير علم . وقال آخرون : عنى بها غرم الدية . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق { فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ } فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يحسبه عليهم . والمعرّة : هي المفعلة من العرّ ، وهو الجرب . وإنما المعنى : فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون بها ، يلزمكم من أجلها كفَّارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة ، من أطاق ذلك ، ومن لم يطق فصيام شهرين . وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق ، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال : { وإنْ كانَ مِنْ قَوْم عَدُوَ لَكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك قلنا : عنى بالمعرّة في هذا الموضع الكفارة ، و { أن } من قوله : { أنْ تَطَئُوهُمْ } في موضع رفع ردّاً على الرجال ، لأن معنى الكلام : ولولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة ، ولكنه حال بينكم وبين ذلك { لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ } يقول : ليدخل في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها ، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه . وقوله : { لَوْ تَزَيَّلوا } يقول : لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم { لَعَذَّبْنا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم عَذَاباً ألِيماً } يقول : لقتلنا من بقي فيها بالسيف ، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَوْ تَزَيَّلُوا … } الآية ، إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار . حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } يعني أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون : يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد تزيَّلوا ، لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً . حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { لَوْ تَزَيَّلُوا } لو تفرّقوا ، فتفرّق المؤمن من الكافر ، لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً .