Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 82-82)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم : { لَتَـجِدَنَّ } يا مـحمد { أشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً } للذين صدّقوك واتبعوك وصدّقوا بـما جئتهم به من أهل الإسلام ، { الـيَهُودَ والَّذِينَ أشْرَكُوا } يعنـي عبدة الأوثان الذين اتـخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله . { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا } يقول : ولتـجدنّ أقرب الناس مودّة ومـحبة . والـمودّة : الـمفعلة ، من قول الرجل : وَدِدْتُ كذا أودُّه وُدًّا ووِدًّا ووَدًّا ومودّة : إذا أحببته . { للذين آمنوا } ، يقول : للذين صدّقوا الله ورسوله مـحمداً صلى الله عليه وسلم . { الَّذِينَ قالوا إنَّا نَصَارَى ذَلكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً وأنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } عن قبول الـحقّ واتبـاعه والإذعان به . وقـيـل : إن هذه الآية والتـي بعدها نزلت فـي نفر قِدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الـحبشة ، فلـما سمعوا القرآن أسلـموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقـيـل : إنها نزلت فـي النـجاشي ملك الـحبشة وأصحاب له أسلـموا معه . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا خَصِيف ، عن سعيد بن جبـير ، قال : بعث النـجاشيّ وفداً إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم ، فقرأ علـيهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم فأسلـموا . قال : فأنزل الله تعالـى فـيهم : { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنَّا نَصَارَى } … إلـى آخر الآية . قال : فرجعوا إلـى النـجاشي فأخبروه ، فأسلـم النـجاشيّ ، فلـم يزل مسلـماً حتـى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أخاكُمُ النَّـجاشِي قَدْ ماتَ ، فَصلُّوا عَلَـيْهِ " فصلـى علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالـمدينة والنـجاشيّ بـالـحبشة . حدثنـي مـحمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبـي نـجيح ، عن مـجاهد ، فـي قول الله : { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنَّا نَصَارَى } قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الـحبشة . حدثنـي الـمثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالـح ، قال : ثنـي معاوية بن صالـح ، عن علـيّ بن أبـي طلـحة ، عن ابن عبـاس : { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنَّا نَصَارَى } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة خاف علـى أصحابه من الـمشركين ، فبعث جعفر بن أبـي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون فـي رهط من أصحابه إلـى النـجاشيّ ملك الـحبشة فلـما بلغ ذلك الـمشركين ، بعثوا عمرو بن العاص فـي رهط منهم ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى النـجاشيّ ، فقالوا : إنه خرج فـينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبـيّ ، وإنه بعث إلـيك رهطاً لـيفسدوا علـيك قومك ، فأحببنا أن نأتـيك ونـخبرك خبرهم . قال : إن جاءونـي نظرت فـيـما يقولون . فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا ببـاب النـجاشي ، فقالوا : أتأذن لأولـياء الله ؟ فقال : ائذن لهم ، فمرحبـاً بأولـياء الله فلـما دخـلوا علـيه سلـموا ، فقال له الرهط من الـمشركين : ألا ترى أيها الـملك أنا صدقناك ، لـم يحيوك بتـحيتك التـي تـحيا بها ؟ فقال لهم : ما منعكم أن تـحيُّونـي بتـحيتـي ؟ فقالوا : إنا حيـيناك بتـحية أهل الـجنة وتـحية الـملائكة . قال لهم : ما يقول صاحبكم فـي عيسى وأمه ؟ قال : يقول : هو عبد الله وكلـمة من الله ألقاها إلـى مريـم وروح منه ، ويقول فـي مريـم : إنها العذراء البتول . قال : فأخذ عوداً من الأرض ، فقال : ما زاد عيسى وأمه علـى ما قال صاحبكم قدر هذا العود فكره الـمشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئاً مـما أنزل علـيكم ؟ قالوا : نعم . قال : اقرءوا فقرءوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبـان وسائر النصارى ، فعرفت كلّ ما قرءوا ، وانـحدرت دموعهم مـما عرفوا من الـحقّ . قال الله تعالـى ذكره : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسيِّسِينَ وَرُهْبـاناً وأنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلـى الرَّسُولِ } … الآية . حدثنـي مـحمد بن الـحسين ، قال : ثنـي أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسبـاط عن السديّ : { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنَّا نَصَارَى } … الآية . قال : بعث النـجاشيّ إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنـي عشر رجلاً من الـحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبـاناً ، ينظرون إلـيه ويسألونه . فلـما لقوه فقرأ علـيهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله علـيه فـيهم : { وأنَّهُمْ لا يَسْتَكبرُونَ وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلـى الرَّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِـيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِـمَّا عَرَفُوا مِنَ الـحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فـاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ } فآمنوا ثم رجعوا إلـى النـجاشيّ . فهاجر النـجاشيّ معهم ، فمات فـي الطريق ، فصلـى علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون واستغفروا له . حدثنا القاسم ، قال : ثنا الـحسين ، قال : ثنـا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء فـي قوله : { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنَّا نَصَارَى } … الآية ، هم ناس من الـحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة الـمؤمنـين . وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا علـى شريعة عيسى من أهل الإيـمان فلـما بعث الله تعالـى ذكره نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم آمنوا به . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَتَـجِدَنَّ أقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا } ، فقرأ حتـى بلغ : { فـاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أناس من أهل الكتاب كانوا علـى شريعة من الـحقّ مـما جاء به عيسى ، ويؤمنون به وينتهون إلـيه فلـما بعث الله نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم صدّقوا به وآمنوا ، وعرفوا الذي جاء به أنه الـحقّ ، فأثنى علـيهم ما تسمعون . والصواب فـي ذلك من القول عندي أن الله تعالـى وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى ، أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس وداداً لأهل الإيـمان بـالله ورسوله ، ولـم يسمّ لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النـجاشيّ ، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا علـى شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلـموا لـما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الـحقّ ، ولـم يستكبروا عنه . وأما قوله تعالـى : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } فإنه يقول : قربت مودّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للـمؤمنـين من أجل أن منهم قسيسين ورهبـاناً . والقسيسون : جمع قسيس ، وقد يجمع القسيس : « قُسوس » ، لأن القسّ والقسيس بـمعنى واحد . وكان ابن زيد يقول فـي القسيس بـما : حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : القسيسين : عُبَّـادهم . وأما الرُّهبـان ، فإنه يكون واحداً وجمعاً فأما إذا كان جمعاً ، فإن واحدهم يكون راهبـاً ، ويكون الراهب حينئذ فـاعلاً من قول القائل : رَهب الله فلان ، بـمعنى : خافه ، يَرْهَبُه رَهَبـاً ورَهْبـاً ، ثم يجمع الراهب رهبـان ، مثل راكب وركبـان ، وفـارس وفرسان . ومن الدلـيـل علـى أنه قد يكون عند العرب جمعاً قول الشاعر : @ رُهْبـانُ مَدْيَنَ لَوْ رأوْكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ منْ شَعَفِ العُقولِ الفـادِرِ @@ وقد يكون الرهبـان واحداً ، وإذا كان واحداً كان جمعه رهابـين ، مثل قربـان وقرابـين ، وجُردان وجرادين . ويجوز جمعه أيضاً رهابنة إذا كان كذلك . ومن الدلـيـل علـى أنه قد يكون عند العرب واحداً قول الشاعر : @ لَوْ عايَنَتْ رُهْبـانَ دَيْرٍ فِـي القُلَلْ لانـحَدَرَ الرُّهْبـانُ يَـمْشِي وَنَزَلْ @@ واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيِّ بقوله : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } فقال بعضهم : عنـي بذلك قوم كانوا استـجابوا لعيسى ابن مريـم حين دعاهم ، واتبعوه علـى شريعته . ذكر من قال ذلك : حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم ، قال : ثنا هشيـم ، عن حصين عمن حدّثه ، عن ابن عبـاس فـي قوله : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } قال : كانوا نَوَاتـيَّ فـي البحر يعنـي مَلاَّحين قال : فمرّ بهم عيسى ابن مريـم ، فدعاهم إلـى الإسلام فأجابوه . قال : فذلك قوله : { قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } . وقال آخرون : بل عنـي بذلك القوم الذين كان النـجاشيّ بعثهم إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلـم ، قال : ثنا عنبسة عمن حدثه ، عن أبـي صالـح فـي قوله : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو اثنان وستون من الـحبشة ، كلهم صاحب صومعة ، علـيهم ثـياب الصوف . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، عن سفـيان ، عن سالـم ، عن سعيد بن جبـير : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } قال : بعث النـجاشيّ إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء . حدثنـي الـحرث ، قال : ثنا عبد العزيز ، قال : ثنا قـيس ، عن سالـم الأفطس ، عن سعيد بن جبـير : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً } قال : هم رسل النـجاشيّ الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلاً اختارهم الـخير فـالـخير . فدخـلوا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ علـيهم : يس والقُرْآنِ الـحَكِيـمِ فبكوا وعرفوا الـحقّ ، فأنزل الله فـيهم : { ذَلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـاناً ، وأنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } ، وأنزل فـيهم : { الَّذِينَ آتَـيْناهُمُ الكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } … إلـى قوله : { يُؤْتَوْنَ أجْرَهْمْ مَرَّتـينِ بِـمَا صَبرُوا } والصواب فـي ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالـى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى علـيهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيـمان بـالله ورسوله ، أن ذلك إنـما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد فـي العبـادة وترهيب فـي الديارات والصوامع ، وأن منهم علـماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من الـمؤمنـين لتواضعهم للـحقّ إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبـينوه لأنهم أهل دين واجتهاد فـيه ونصيحة لأنفسهم فـي ذات الله ، ولـيسوا كالـيهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبـياء والرسل ومعاندة الله فـي أمره ونهيه وتـحريف تنزيـله الذي أنزله فـي كتبه .