Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 27-27)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى ذكره : ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيَّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا ، وأتبعنا بعيسى ابن مريم { وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } يعني : الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته { رأَفَةً } وهو أشدّ الرحمة { وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها } يقول : أحدثوها { ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ } يقول : ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم { إلاَّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ } يقول : لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها } . واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها ، فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، لم يقوموا بها ، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى : فتنصّروا وتهوّدوا . وقال آخرون : بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها ، لأنهم كانوا كفاراً ولكنهم قالوا : نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّلياً ، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها . وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة { وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً } فهاتان من الله ، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم ، ولم تُكتب عليهم ، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله ، فما رعوها حقّ رعايتها ، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء ، واتخذوا الصوامع . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { وَرهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها } قال : لم تُكتب عليهم ، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ } قال فلم ؟ قال : ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعاً ، فما رَعوْها حقّ رعايتها . ذكر من قال : الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها . ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم . حدثنا الحسين بن الحريث أبو عمار المَرْوَزِيّ قال : ثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ، فقيل لملكهم : ما نجد شيئاً أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء أنهم يقرأون { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهَ فأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ } هؤلاء الآيات مع ما يعببوننا به في قراءتهم ، فادعهم فليقرأوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا به ، قال : فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل ، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدّلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك فدعونا قال : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، فلا نردّ عليكم ، وقالت طائفة منهم : دعونا نسيح في الأرض ، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش ، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ، ونحتفر الآبار ، ونحترث البقول ، فلا نردّ عليكم ، ولا نمرّ بكم ، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم قال : ففعلوا ذلك ، فأنزل الله جلّ ثناؤه { وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَق رِعايَتِها } الآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان . ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم قال : فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، انحطّ رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وجاء صاحب الدار من داره ، وآمنوا به وصدّقوه ، فقال الله جلّ ثناؤه { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وآمَنُوا برسوله يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ } قال : أجرين لإيمانهم بعيسى ، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل ، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به . قال { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } القرآن ، واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وأنَّ الفَضْلَ بِيَدٍ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : ثنا داود بن المحبر ، قال : ثنا الصعق بن حزن ، قال : ثنا عقيل الجعديّ ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن سويد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ : فِرْقَةٌ مِنَ الثَّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ ، فَتَرَهَّبُوا فِيها " فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ } قال : " ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله " { فَمَا رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها } قال : " ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها " { فآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ } قال : " وهم الذين آمنوا بي ، وصدّقوني " . قال { وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ } قال : " فهم الذين جحدوني وكذّبوني " . حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس { وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها } قال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك ، وفني من فني منهم ، يقولون : نتعبَّد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم . ذكر من قال : الذين لم يرعوها حقّ رعايتها : الذين ابتدعوها . حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَجَعَلْنا فِي قُلُوب الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأفَةً وَرَحْمَةً … } إلى قوله : { حَقَّ رِعايِتها } يقول : ما أطاعوني فيها ، وتكلَّموا فيها بمعصية الله ، وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم ، فلما استخرج أهل الإيمان ، ولم يبق منهم إلا قليل ، وكثر أهل الشرك وذهب الرسل وقهروا ، اعتزلوا في الغيران ، فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم ، وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه ، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية ، فلم يرعوها حقّ رعايتها وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، حين جاءهم بالبينات وبعث الله عزّ وجلّ محمداً رسولاً صلى الله عليه وسلم وهم كذلك فذلك قوله : { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ } إلى { وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُواها ما كَتَبْناها عَلَيْهمْ } كان الله عزّ وجل كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ، ولم يبق منهم إلا القليل ، وكثر أهل الشرك ، وانقطعت الرسل ، اعتزلوا الناس ، فصاروا في الغيران ، فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم ، فتركوا دين الله وأمره وعهده الذي عهده إليهم ، وأخذوا بالبدع ، فابتدعوا النصرانية واليهودية ، فقال الله عزّ وجلّ لهم : { ما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها } وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه ، حتى بَعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به . حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم ، قال : سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول : إن الله كتب عليكم صيام رمضان ، ولم يكتب عليكم قيامه ، وإنما القيام شيء ابتدعتموه ، وإن قوماً ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله ، فلم يرعوها حقّ رعايتها ، فعابهم الله بتركها ، فقال : { وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايتِها } . وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها ، بعض الطوائف التي ابتدعتها ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال : فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها ، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه : { فآتَيْنا الَّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ } إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها ، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم ، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها ، فجائز في كلام العرب أن يقال : لم يرعها القوم على العموم . والمراد منهم البعض الحاضر ، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب . وقوله : { فآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ } يقول تعالى ذكره : فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله ، وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة ، وكثير منهم أهل معاص ، وخروج عن طاعته ، والإيمان به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد { فآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ } قال : الذين رعوا ذلك الحقّ .