Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 154-154)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ } ثم قل بعد ذلك يا محمد : آتى ربك موسى الكتاب . فترك ذكر « قل » ، إذ كان قد تقدم في أوّل القصة ما يدلّ على أنه مراد فيها ، وذلك قوله : { قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } فقصّ ما حرّم عليهم وأحلّ ، ثم قال : ثم قل : آتينا موسى ، فحذف « قل » لدلالة قوله : « قل » عليه ، وأنه مراد في الكلام . وإنما قلنا ذلك مراد في الكلام ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا شكّ أنه بعث بعد موسى بدهر طويل وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على من أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه ، ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمداً بتلاوة هذه الآيات على من أمر بتلاوتها عليه ، و « ثم » في كلام العرب حرف يدلّ على أنه ما بعده من الكلام والخبر بعد الذي قبلها . ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : { تَماماً على الَّذِي أحْسَنَ } فقال بعضهم : معناه : تماماً على المحسنين . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تماماً على الَّذِي أحْسَنَ } قال : على المؤمنين . حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : { تَماماً على الَّذي أحْسَنَ } المؤمنين والمحسنين . وكأن مجاهداً وجه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده . فإن قال قائل : فكيف جاز أن يقال : { على الَّذِي أحْسَنَ } فيوحد « الذي » ، والتأويل على الذين أحسنوا ؟ قيل : إن العرب تفعل ذلك خاصة في الذي وفي الألف واللام إذا أرادت به الكلّ والجميع ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَالعَصْرِ إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ } وكما قالوا : أكثر الذي هم فيه في أيدي الناس . وقد ذُكِر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : « تَماماً على الَّذِينَ أحْسَنُوا » وذلك من قراءته كذلك يؤيد قول مجاهد . وإذا كان المعنى كذلك ، كان قوله : « أحْسَنَ » فعلاً ماضياً ، فيكون نصبه لذلك . وقد يجوز أن يكون « أحسن » في موضع خفض ، غير أنه نصب ، إذ كان « أفعل » ، و « أفعل » لا يجري في كلامها . فإن قيل : فبأيّ شيء خفض ؟ قيل : ردًّا على « الذي » إذ لم يظهر له ما يرفعه . فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي هو أحسن ، ثم حذف « هو » ، وجاور « أحسن » « الذي » ، فعرف بتعريفه ، إذ كان كالمعرفة من أجل أن الألف واللام لا يدخلانه ، « والذي » مثله ، كما تقول العرب : مررت بالذي خير منك وشرّ منك ، وكما قال الراجز : @ إنَّ الزُّبَيْرِيَّ الَّذِي مِثْلُ الحَلَمْ مَسَّى بأسْلابِكُمْ أهْلَ العَلَمْ @@ فأتبع « مثل » « الذي » في الإعراب . ومن قال ذلك لم يقل : مررت بالذي عالم ، لأن « عالماً » نكرة « والذي » معرفة ، ولا تتبع نكرة معرفة . وقال آخرون : معنى ذلك : تماماً على الذي أحسن موسى فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه . ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الكَتابَ تَمَاماً على الَّذِين أحْسَنَ } فيما أعطاه الله . حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ تَمَاماً على الَّذِي أحْسَنَ } قال : من أحسن في الدنيا تمم الله له ذلك في الآخرة . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله : { ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمَاماً على الَّذِي أحْسَنَ } يقول : من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة . وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع تماماً على ما أحسن موسى ، أي آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة تماماً على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته . وقال آخرون في ذلك : معناه : ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم . ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ تمَاماً على الَّذِي أحْسَنَ } قال : تماماً من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام ، وآتاهم ذلك الكتاب تماماً لنعمته عليه وإحسانه . « وأحسن » على هذا التأويل أيضاً في موضع نصب على أنه فعل ماض . « والذي » على هذا القول والقول الذي قاله الربيع بمعنى : « ما » . وذكر عن يحيى بن يعمُر أنه كان يقرأ ذلك : « تَمَاماً على الَّذِي أحْسَنُ » رفعاً ، بتأويل : على الذي هو أحسن . حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا الحجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن يحيى بن يعمُر . قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح ، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار . وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معناه : ثم آتينا موسى الكتاب تماماً لنعمنا عنده على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهر معانيه في الكلام ، وأن إيتاء موسى كتابه نعمة من الله عليه ومنة عظيمة ، فأخبر جلّ ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحسن طاعة . ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد كان الكلام : ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسنَّا ، أو : ثم آتى الله موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن . وفي وصفه جلّ ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب ثم صرفه الخبر بقوله : « أحسن » ، إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين ، الدليل الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد . وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه « الذي » إلى معنى الجميع فلا دليل في الكلام يدلّ على صحة ما قال من ذلك ، بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام كان أولى معانيه به أغلبه على الظاهر ، إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليل واضح على أنه معنىّ به غير ذلك . وأما قوله : { وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ } فإنه يعني : وتبييناً لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به . فتأويل الكلام إذن : ثم آتينا موسى التوراة تماماً لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله ، تتمّ به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربه وقيامه بما كلفه من شرائع دينه ، وتبييناً لكلّ ما لقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم . كما : حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : { وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ } فيه حلاله وحرامه . القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } . يقول تعالى ذكره : آتينا موسى الكتاب تماماً وتفصيلاً لكلّ شيء . { وَهُدًى } يعني بقوله « وهدى » : تقويماً لهم على الطريق المستقيم ، وبياناً لهم سبل الرشاد لئلا يضلوا . { وَرَحْمَةً } يقول : ورحمة منا بهم ، ورأفة ، لننجيهم من الضلالة وعمى الحيرة . وأما قوله : { لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } فإنه يعني : إيتائي موسى الكتاب تماماً لكرامة الله موسى على إحسان موسى ، وتفصيلاً لشرائع دينه ، وهدى لمن اتبعه ورحمة لمن كان منهم ضالاًّ ، لينجيه الله به من الضلالة ، وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه ، فيرتدع عما هو عليه مقيم من الكفر به ، وبلقائه بعد مماته ، فيطيع ربه ، ويصدّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم .