Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 72, Ayat: 1-3)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد أوحى الله إليّ { أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ } هذا القرآن { فَقالُوا } لقومهم لما سمعوه { إنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ } يقول : يدلّ على الحقّ وسبيل الصواب { فآمَنَّا بِهِ } يقول : فصدّقناه { وَلَن نُشْرِكَ برَبِّنا أحَداً } من خلقه . وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجنّ القرآن ، كما : حدثني محمد بن معمر ، قال : ثنا أبو هشام ، يعني المخزومي ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، قال : وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأُرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأُرسلت علينا الشهب ، فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، قال : فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث ، قال : فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، يتتبعون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر المساء قال : فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر قال : فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء قال : فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا { إنا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فآمَنَّا بِه وَلَنْ نُشْركَ بِرَبِّنا أحَداً } قال : فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ أُوْحِيَ إليَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ } وإنما أوحي إليه قول الجنّ . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن ورقاء ، قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم انصرفوا ، فذلك قوله : { وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَراً مِنَ الجِن يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوه قالُوا أنْصِتُوا } قال : كانوا تسعة فيهم زوبعة . حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { قُلْ أُوْحِيَ إليَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ } هو قول الله { وإذ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَراً مِنَ الجِنّ } لم تُحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا ، ورُميت الشياطين بالشهب ، فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، فأمر الجنّ فتفرّقت في الأرض لتأتيه بخبر ما حدث . وكان أوّل من بُعث نفر من أهل نصِيبين وهي أرض باليمن ، وهم أشراف الجنّ وسادتهم ، فبعثهم إلى تهامة وما يلي اليمن ، فمضى أولئك النفر ، فأتوا على الوادي وادي نخلة ، وهو من الوادي مسيرة ليلتين ، فوجدوا به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة فسمعوه يتلو القرآن فلما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما قُضِيَ ، يعني فُرِغ من الصلاة ، وَلَّوْا إلى قومهم منذرين ، يعني مؤمنين ، لم يعلم بهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يشعر أنه صُرِف إليه ، حتى أنزل الله عليه : { قُلْ أُوْحِيَ إليَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ } . وقوله : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحدا ، وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } يقول : فعله وأمره وقُدرته . حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } يقول : تعالى أمر ربنا . حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المُثَّنى قالا : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة في هذه الآية : { تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال : أمر ربنا . حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ : { تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال : أمر ربنا . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { تَعالى جَدُّ رَبِّنا ما اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً } قال : تعالى أمره أن يتخذ ولا يكون الذي قالوا : صاحبة ولا ولداً ، وقرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلم يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدُ } قال : لا يكون ذلك منه . وقال آخرون : عني بذلك جلال ربنا وذكره . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قال عكرِمة ، في قوله : { جَد رَبِّنا } قال : جلال ربنا . حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثني خالد بن يزيد ، قال : ثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قوله : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال : جلال ربنا . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران عن سفيان ، عن سليمان التَّيْمِيّ قال : قال عكرِمة : { تَعالى جَدُّ رَبِّنا } جلال ربنا . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } : أي تعالى جلاله وعظمته وأمره . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله { تعالى جَد رَبِّنا } قال : تعالى : أمر ربنا تعالت عظمته . وقال آخرون : بل معنى ذلك : تعالى غنى ربنا . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال الحسن ، في قوله تعالى : جَدُّ رَبِّنا قال : غنى ربنا . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن { تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال : غنى ربنا . حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : تَعالى { جَد رَبِّنا } قال : غِنَى ربنا . حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا هشيم ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن وعكرِمة ، في قول الله : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال أحدهما : غناه ، وقال الآخر : عظمته . وقال آخرون : عَنِي بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ، قالوا : ذلك كان من كلام جهلة الجنّ . ذكر من قال ذلك : حدثني أبو السائب ، قال : ثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي سارة ، عن أبيه ، عن أبي جعفر : { تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال : كان كلاماً من جهلة الجنّ . وقال آخرون : عُنِي بذلك : ذِكْره . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعاً عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { تَعالى جَدُّ رَبِّنا } قال : ذكره . وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك : تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسطانه . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدّ في كلام العرب معنيين : أحدهما الجَدّ الذي هو أبو الأب ، أو أبو الأم ، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، وذلك أنهم قد قالوا : { فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً } ومن وصف الله بأن له ولداً أو جدّاً أو هو أبو أب أو أبو أمّ ، فلا شكّ أنه من المشركين . والمعنى الآخر : الجَدّ الذي بمعنى الحظّ يقال : فلان ذو جدّ في هذا الأمر : إذا كان له حظّ فيه ، وهو الذي يُقال له بالفارسية « البَخْت » ، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا } إن شاء الله . وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية ، فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها ، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه الولد ، فقال النفر من الجن : علا مُلكُ ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو وِقاع شيء يكون منه ولد . وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نزّهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله : { وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ما اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً } يقال منه : رجل جدّي وجديد ومجدود : أي ذو حظّ فيما هو فيه ومنه قول حاتم الطائي : @ أُغْزُوا بني ثُعْلٍ فالغَزْوُ جَدُّكُمُ عُدُّوا الرَّوَابي وَلا تَبْكُوا لِمَنْ قُتِلا @@ وقال آخر : @ يُرَفَّعُ جَدُّكَ إنّي امْرُوٌسَقَتْنِي إلَيْكَ الأعادِي سِجالا @@ وقوله : { ما اتَّخَذَ صَاحِبَةً } يعني زوجة { وَلا وَلَداً } . واختلفت القرّاء في قراءة قوله { وأنَّهُ تَعالى } فقرأه أبو جعفر القارىء وستة أحرف أُخر بالفتح ، منها : { إنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ } { وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ } { وأنَّهُ كان يَقُولُ سَفِيهُنا } { وأنَّهُ كانَ رِجال مِنَ الإنْس } { وأنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } { وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطَّرِيقَةِ } وكان نافع يكسرها إلا ثلاثة أحرف : أحدها : { قُلْ أُوحِيَ إليَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ } والثانية { وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا } ، والثالثة { وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ } وأما قرّاء الكوفة غير عاصم ، فإنهم يفتحون جميع ما في آخر سورة النجم وأوّل سورة الجنّ إلا قوله { فَقالُوا إنَّا سمِعْنا } ، وقوله : { قالَ إنَّمَا أدْعُو رَبّي } وما بعده إلى آخر السورة ، وأنهم يكسرون ذلك غير قوله : { لِيَعْلَمَ أنْ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ } وأما عاصم فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله : { وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ } فإنه كان يفتحها ، وأما أبو عمرو ، فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله : { وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطَّرِيقَةِ } فإنه كان يفتح هذه وما بعدها فأما الذين فتحوا جميعها إلا في موضع القول ، كقوله : { فَقالُوَا إنَّا سَمِعْنا } وقوله : { قالَ إنَّمَا أدْعُو رَبّي } ونحو ذلك ، فإنهم عطفوا أن في كلّ السورة على قوله فآمنا به ، وآمنا بكلّ ذلك ، ففتحوها بوقوع الإيمان عليها . وكان الفرّاء يقول : لا يمنعنك أن تجد الإيمان يقبح في بعض ذلك من الفتح ، وأن الذي يقبح مع ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارع للإيمان ، فوجب فتح أنّ كما قالت العرب : @ إذَا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً وزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيُونا @@ فنصب العيون لاتباعها الحواجب ، وهي لا تزجج ، وإنما تكحل ، فأضمر لها الكحل ، كذلك يضمر في الموضع الذي لا يحسن فيه آمنَّا صدّقنا وآمَّنا وشهدنا . قال : وبقول النصب قوله : { وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطَّرِيقَةِ } فينبغي لمن كسر أن يحذف « أن » من « لو » لأن « أن » إذا خُففت لم تكن حكاية . ألا ترى أنك تقول : أقول لو فعلت لفعلت ، ولا تدخل « أن » . وأما الذين كسروها كلهم وهم في ذلك يقولون : { وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا } فكأنهم أضمروا يميناً مع « لو » وقطعوها عن النسق على أوّل الكلام ، فقالوا : والله أن لو استقاموا قال : والعرب تدخل « أن » في هذا الموضع مع اليمين وتحذفها ، قال الشاعر : @ فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنَ لَمْ نَجدْ لَكَ مَدْفَعا @@ قالوا : وأنشدنا آخر : @ أمَا وَاللَّهَ أنْ لَوْ كُنْتَ حرا وَما بالْحُرّ أنْتَ وَلا العَتِيقِ @@ وأدخل « أن » من كسرها كلها ، ونصب { وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ } فإنه خصّ ذلك بالوحي ، وجعل { وأنْ لَوْ } مضمرة فيها اليمين على ما وصفت . وأما نافع فإن ما فتح من ذلك فإنه ردّه على قوله : { أُوحِيَ إليّ } وما كسره فإنه جعله من قول الجنّ . وأحبّ ذلك إليَّ أن أقرأ به الفتح فيما كان وحياً ، والكسر فيما كان من قول الجنّ ، لأن ذلك أفصحها في العربية ، وأبينها في المعنى ، وإن كان للقراءات الأُخر وجوه غير مدفوعة صحتها .