Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 92, Ayat: 1-10)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى ذكره مُقسِماً بالليل إذا غَشَّى النهار بظلمته ، فأذهب ضوءه ، وجاءت ظُلمته : { واللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } النهار { والنَّهارِ إذا تَجَلَّى } وهذا أيضاً قسم ، أقسم بالنهار إذا هو أضاء فأنار ، وظهر للأبصار ، ما كانت ظلمة الليل قد حالت بينها وبين رؤيته وإيتانه إياها عيانا . وكان قتادة يذهب فيما أقسم الله به من الأشياء أنه إنما أقسم به لعِظَم شأنه عنده ، كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى } قال : آيتان عظيمتان يكوّرهما الله على الخلائق . وقوله : { وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثَى } يحتمل الوجهين اللذين وصفت في قوله : { وَالسَّماءِ وَما بَناها والأرْضِ وَما طَحاها } وهو أن يجعل « ما » بمعنى « مَنْ » ، فيكون ذلك قسماً من الله جلّ ثناؤه بخالق الذّكر والأنثى ، وهو ذلك الخلق ، وأن تجعل « ما » مع ما بعدها بمعنى المصدر ، ويكون قسماً بخلقه الذكر والأنثى . وقد ذُكر عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء : أنهما كانا يقرآن ذلك « وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَىَ » ويأثُرُه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر بذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : في قراءة عبد الله : « وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ والأُنْثَى » . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا هشام بن عبد الملك ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني المُغيرة ، قال : سمعت إبراهيم يقول : أتى علقمة الشأم ، فقعد إلى أبي الدرداء ، فقال : ممن أنت ؟ فقلت : من أهل الكوفة ، فقال : كيف كان عبد الله يقرأ هذه الآية { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى } فقلت : « وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى » قال : فما زال هؤلاء حتى كادوا يستضلُّونني وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا حاتم بن وَرْدان ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : أتينا الشأم ، فدخلت على أبي الدرداء ، فسألني فقال : كيف سمعت ابن مسعود يقرأ هذه الآية : { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى } قال : قلت : « وَالذَّكَرِ والأنْثَى » قال : كفاك ، سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها . حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُليَة وحدثني إسحاق بن شاهين الواسطيّ ، قال : ثنا خالد بن عبد الله عن داود ، عن عامر ، عن علقمة ، قال : قَدِمت الشأم ، فلقيت أبا الدرداء ، فقال : من أين أنت ؟ فقلت من أهل العراق ؟ قال : من أيها ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : هل تقرؤه قراءة ابن أمّ عبد ؟ قلت : نعم ، قال : اقرأ { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } قال : فقرأت : « وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ والأُنْثَى » قال : فضحك ، ثم قال : هكذا سمعت مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثني داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن أبي الدَّرداء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه . حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : قدمت الشأم ، فأتى أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله ؟ قال : فأشاروا إليّ ، قال : قلت أنا ، قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية : « وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى » قال : وأنا هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فهؤلاء يريدوني على أن أقرأ { وَما خَلَقَ الذَّكَرِ والأُنْثَى } فلا أنا أتابعهم . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى } قال : في بعض الحروف : « وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى » . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله . حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن أنه كان يقرؤها { وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثَى } يقول : والذي خلق الذكر والأنثى قال هارون قال أبو عمرو : وأهل مكة يقولون للرعد : سبحانَ ما سبَّحْتَ له . حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن مِقْسمَ الضَّبيّ ، عن إبراهيم بن يزيد بن أبي عمران ، عن علقمة بن قيس أبي شبل : أنه أتى الشام ، فدخل المسجد فصلَّى فيه ، ثم قام إلى حَلْقة فجلس فيها قال : فجاء رجل إليّ ، فعرفت فيه تحوّش القول وهيبتهم له ، فجلس إلى جنبي ، فقلت : الحمد لله إني لأرجو أن يكون الله قد استجاب دعوتي ، فإذا ذلك الرجل أبو الدرداء ، قال : وما ذاك ؟ فقال علقمة : دعوت الله أن يرزقني جليساً صالحاً ، فأرجو أن يكون أنت ، قال : مِنْ أين أنت ؟ قلت : من الكوفة ، أو من أهل العراق من الكوفة . قال أبو الدرداء : ألم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمِطْهَرة ، يعني ابن مسعود ، أو لم يكن فيكم من أجير على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان الرجيم ، يعني عَمَّار بن ياسر ، أو لم يكن فيكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره ، أو أحد غيره ، يعني حُذَيفة بن اليمان ، ثم قال : أيكم يحفظ كما كان عبد الله يقرأ ؟ قال : فقلت : أنا ، قال : اقرأ : { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارَ إذَا تَجَلَّى } قال علقمة : فقرأت : الذكرِ والأنثى ، فقال أبو الدرداء : والذي لا إله إلاَّ هو ، كذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوه إلى فيَّ ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردّونني عنها . وقوله : { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } يقول : إن عملكم لمختلف أيها الناس ، لأن منكم الكافر بربه ، والعاصي له في أمره ونهيه ، والمؤمن به ، والمطيع له في أمره ونهيه ، كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } يقول : لمختلف . وقوله : { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } جواب القسم ، والكلام : والليل إذا يغشى إن سعيكم لشتى ، وكذا قال أهل العلم . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع القسم هاهنا { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } . وقوله : { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى } يقول تعالى ذكره : فأما من أعطى واتقى منكم أيها الناس في سبيل الله ، ومن أمَرهُ الله بإعطائه من ماله ، وما وهب له من فضله ، واتقى الله واجتنب محارمه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى } قال : أعطى ما عنده واتقى ، قال : اتقى ربه . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مَهْديّ ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { فأمَّا مَنْ أعْطَى } من الفضل { واتَّقَى } : اتقى ربه . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة { فأمَّا مَنْ أعْطَى } حقّ الله { وَاتَّقَى } محارم الله التي نهى عنها . حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى } يقول : من ذكر الله ، واتقى الله . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } فقال بعضهم : معنى ذلك : وصدّق بالخلف من الله ، على إعطائه ما أعطى من ماله فيما أعْطَى فيه مما أمره الله بإعطائه فيه . ذكر من قال ذلك : حدثني حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا دواد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : وصدّق بالخَلَف من الله . حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } يقول : وصدّق بالخلَف من الله . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } بالخلَف . حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، مثله . حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا بشر بن الحكم الأحْمَسيّ ، عن سعيد بن الصلت ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : أيقن بالخلف . حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن عكرِمة { فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : بالخلف . حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن عكرِمة { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : بأن الله سيخلف له . قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي هاشم المكيّ ، عن مجاهد { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال بالخلف . حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبي بكر الهُذليّ ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن ابن عباس : { وصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : بالخَلَف . حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن نَضْر بن عربيّ ، عن عكرِمة ، قال : بالخَلَف . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وصدّق بأن الله واحد لا شريك له . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمر بن عليّ المُقَدّميّ ، قال : ثنا أشعث السجستانيّ ، قال : ثنا مِسْعَر وحدثنا أبو كُرَيب قال : ثنا وكيع ، عن مِسْعر عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : بلا إله إلاَّ الله . حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن مثله . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، مثله . حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عُبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } : بلا إله إلاَّ الله . حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } : يقول : صدّق بلا إله إلاَّ الله . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وصدّق بالجنة . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : بالجنة . حدثنا ابن بشار ، قال : ثني محمد بن محبب ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . وقال آخرون : بل معناه : وصدق بموعود الله . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : بموعود الله على نفسه ، فعمل بذلك الموعود الذي وعده الله . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } قال : صدّق المؤمن بموعود الله الحسن . وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وأولاها بالصواب عندي : قول من قال : عُنِي به التصديق بالخَلَف من الله على نفقته . وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ، لأن الله ذكر قبله مُنفقاً أنفق طالباً بنفقته الخَلَف منها ، فكان أولى المعاني به أن يكون الذي عقيبه الخبر عن تصديقه بوعد الله إياه بالخَلَف إذ كانت نفقته على الوجه الذي يرضاه ، مع أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك ورد . ذكر الخبر الوارد بذلك : حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة ، قال : ثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : ثنا عَبّاد بن راشد ، عن قتادة قال : ثني خُلَيد العَصْرِيّ ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ ، إلاَّ وبِجَنْبَيْها مَلَكانِ يُنادِيانِ ، يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللّهِ كُلُّهُمْ إلاَّ الثَّقَلَينِ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ، وأعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً " فأنْزَلَ اللّهُ فِي ذلك القرآن { فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى … } . إلى قوله { لِلْعُسرَى } . وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه . ذكر الخبر بذلك : حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عُبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق ، عن عامر بن عبد الله بن الزّبير ، قال : كان أبو بكر الصدّيق يُعْتِق على الإسلام بمكة ، فكان يُعْتِق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أَيْ بُنَيّ ، أراك تُعْتِق أناساً ضعفاء ، فلو أنك أعتقت رجالاً جُلداً يقومون معك ، ويمنعونك ، ويدفعون عنك ، فقال : أي أبت ، إنما أريد « أظنه قال » : ما عند الله ، قال : فحدثني بعض أهل بيتي ، أن هذه الآية أنزلت فيه : { فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } . وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } يقول : فسنهيئه للخَلَّة اليُسْرَى ، وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ، ليوجب له به في الآخرة الجنة . وقوله : { وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } يقول تعالى ذكره : وأما من بخل بالنفقة في سبيل الله ، ومنع ما وهب الله له من فضله ، من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها ، واستغنى عن ربه ، فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته ، بالزيادة فيما خوّله من ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا حميد بن مَسْعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } قال : بخل بما عنده ، واستغنى في نفسه . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة عن ابن عباس { وَأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } وأما من بخل بالفضل ، واستغنى عن ربه . حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { وَأمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى } يقول : من أغناه الله ، فبخل بالزكاة . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله { وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } : وأما من بخل بحقّ الله عليه ، واستغنى في نفسه عن ربه . وأما قوله : { وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو اختلافهم في قوله : { وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى } وأما نحن فنقول : معناه : وكذّب بالخَلَف ، كما : حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : { وكَذَّبَ بالْحُسْنَى } : وكذّب بالخَلَف . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى } بالخَلَف من الله . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة { وكَذَّبَ بالْحُسْنَى } وكذّب بموعود الله الذي وعد ، قال الله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى } وكذّب الكافر بموعود الله الحسن . وقال آخرون : معناه : وكذّب بتوحيد الله . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى } : وكذّب بلا إله إلاَّ الله . حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى } بلا إله إلاَّ الله . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وكذّب بالجنة . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى } قال : بالجنة . وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } يقول تعالى ذكره : فسنهيئه في الدنيا للخَلَّة العُسرى ، وهو من قولهم : قد يسرت غنم فلان : إذا ولدت وتهيأت للولادة ، وكما قال الشاعر : @ هُمَا سَيِّدَانا يَزْعُمانِ وإنَّمَا يَسُودَانِنا أنْ يَسَّرَتْ غَنَماهُمَا @@ وقيل : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ولا تيسر في العُسرى للذي تقدّم في أوّل الكلام من قوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } وإذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشرّ ، جاز ذلك بالتيسير فيهما جميعاً والعُسرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه ييسره لها : العمل بما يكرهه ولا يرضاه . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر بذلك : حدثني واصل بن عبد الأعلى وأبو كُرَيب ، قالا : ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السُّلميّ ، عن عليّ ، قال : كُنَّا جلوساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنكَتَ الأرض ، ثم رفع رأسه فقال : " ما مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ " قلنا : يا رسول الله أفلا نتَّكل ؟ قال : " لا ، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ " ، ثم قرأ : { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } . حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا زائدة بن قُدامة ، عن منصور ، عن سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ ، عن عليّ ، قال : كنا في جنازة في البقيع ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود يَنْكُت في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : " ما مِنْكمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ قَدْ كُتِبَ مَدْخَلُها " ، فقال القول : يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا ، فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء ، فقال : " بَلِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ فأمَّا مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ السَّعادَةِ فإنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ السَّعادَةِ وأمَّا مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الشَّقاء فإنَّهُ يُيَسَّرُ للشَّقاءِ " ، ثم قرأ : { فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذَّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } . حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلميّ ، عن عليّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور والأعمش : أنهما سمعا سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ ، عن عليّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة ، فأخذ عوداً فجعل ينكُت في الأرض ، فقال : " ما مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أوْ مِنَ الجَنَّةِ " ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتَّكل ؟ قال : " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذَّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى " حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور والأعمش ، عن سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ ، عن عليّ رضي الله عنه قال : كنا جلوساً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فتناول شيئاً من الأرض بيده ، فقال : " ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ والنَّارِ " قالوا : يا نبيّ الله ، أفلا نتكل ؟ قال : " لا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " ، ثم قرأ : { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى … } . الآيتين . قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن سَمُرة بن أبي زائدة ، عن النَّزَّال بن سَبْرَةَ ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ قَدْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْها ما هِيَ لاقِيَتُهُ " وأعرابي عند النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرتاد ، فقال الأعرابيّ : فما جاء بي أضرب من وادي كذا وكذا ، إن كان قد فُرِغ من الأمر ؟ فنكت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأرض ، حتى ظنّ القوم أنه ودّ أنه لم يكن تكلم بشيء منه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ، فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيراً يَسَّرَهُ لِسَبِيلِ الخَيرِ ، وَمَنْ يُرِدْ بِهِ شَرًّا يَسَّرَهُ لِسَبِيلِ الشَّرِّ " ، فلقيت عمرو بن مُرّة ، فعرضت عليه هذا الحديث ، فقال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذَّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } . حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا حصين ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي ، قال : لما نزلت هذه الآية : إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو في شيء قد فُرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ : سَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ، وَسُنَيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى " حدثني عمرو بن عبد الملك الطائي ، قال : ثنا محمد بن عبيدة ، قال : ثنا الجراح ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سليمان الأعمش ، رفع الحديث إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وبيده عود ينكُت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : " ما مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ وَلا مِنَ النَّاس ، إلاَّ وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ أوِ النَّارِ " ، قلنا : يا رسول الله أفلا نتوكل ؟ قال لهم : " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " ، ثم قال : " أما سَمِعْتُمُ اللّهَ فِي كِتابِهِ يَقُولُ : فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذَّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى " حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } : للشرّ من الله . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي الزّبير ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : يا رسول الله ، أنعمل لأمر قد فُرغ منه ، أو لأمر نأتنفه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ عامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ " حدثني يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طلق بن حبيب ، عن بشير بن كعب ، قال : سأل غلامان شابان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، أنعمل فيما جفَّت به الأقلام ، وجرَت به المقادير ، أو في شيء يستأنف ؟ فقال : " بَلْ فِيما جَفَّتْ به الأقْلامُ ، وَجَرَتْ بهِ المَقادِيرُ " قالا : ففيم العمل إذن ؟ قال : " اعْمَلُوا ، فَكُلُّ عامِلٍ مُيَسَّرٌ لعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ " ، قالا : فالآن نجدّ ونعمل .