Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 106-106)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ } أي : الناس ، أو أهل مكة : { بِٱللَّهِ } أي : في إقرارهم بوجوده وخالقيته { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } أي : بعبادتهم لغيره ، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا ، وبقولهم باتخاذه تعالى ولداً . سبحانه وتعالى عما يقولون علوّاً كبيراً . تنبيه كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر ، وهو أن يعبد مع الله غيره . فإنها تشير إلى ما يتخلل الأفئدة ، وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي ، الذي لا يشعر صاحبه به غالباً . ومنه قول الحسن في هذه الآية : ذاك المنافق ، يعمل إذا عمل رئاء الناس ، وهو مشرك بعمله . يعني : الشرك في العبادة . فصاحبه - وإن اعتقد وحدانيته تعالى - ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه ، أو طلب الدنيا ، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق . فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب . وهذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه ابن حبان في صحيحه : " الشرك في الأمة أخفى من دبيب النمل " فالرياء كله شرك ، وهو محبط للعبادة ، مبطل ثواب العمل ، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجباً . فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة . قال تعالى : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ } [ البينة : 5 ] ، فمن لم يخلص لله في عبادته ، لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به شيء غير المأمور ، فلا يقبل منه . وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه " . وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبِيد ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ! " قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : " الرياء " " . ومن الشرك نوع غير مغفور ، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم ، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله . فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً } الآية : [ البقرة : 165 ] . وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم ، وقد جمعتهم الجحيم : { تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ومعلوم أنهم ما سوّوهم به سبحانه في الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة ، وإنما سوّوهم به في الحب والتأله ، والخضوع لهم والتذلل . وهذا غاية الجهل والظلم . فكيف يسوى من خلق من التراب ، برب الأرباب ، وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ، وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ، بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام ، من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا ؟ وأي حكم أشد جوراً منه ؟ حيث عدل من لا عدل له ، بخلقه - أفاده الشمس ابن القيم في ( الجواب الكافي ) . قال الحافظ ابن كثير : وثم شرك خفي لا يشعر به غالباً فاعله ، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض ، فرأى في عضده سيراً فقطعه ، ثم قال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } . وفي الحديث : " من حلف بغير الله فقد أشرك " رواه الترمذي عن ابن عمر وحسنه . وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرقى والتمائم والتّوَلَةَ شرك " ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق ، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ! قالت : وإنه جاء ذات يوم ، فتنحنح ، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة ، فأدخلتها تحت السرير . قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطاً ، فقال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه ؛ فأخذه فقطعه ، ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرقى والتمائم والتّوَلَةَ شرك " قالت : قلت له : لم تقول هذا وقد كانت عيني تفرق ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت ؟ فقال : إنما ذاك من الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا رقاها كف عنها ، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أذهب الباس ، ربّ الناس ، اشف وأنت الشافي . لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً " . وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من علق تميمة فقد أشرك ! " وأخرج أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ردته الطَيَرَةُ عن حاجته فقد أشرك " وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان ، مع وجود مسمى الشرك ، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به ، بما يتخذه من الشفعاء ، وما يعبده من الأصنام . وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين ، كالرياء مثلاً ، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به ، بذلك الشرك الخفي . وعلى هذا ، فالشرك يجامع الإيمان فإن الموصوف بهما مما تقدم ، مؤمن فيما آمن به ، ومشرك فيما أشرك به والتسمية في الشريعة لله عز وجل ولرسوله ، فلهما أن يوقعا أي اسم شاءا على أي مسمى شاءا . فكما أن الإيمان في اللغة التصديق ، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على الطاعات ، واجتناب المعاصي ، إذا قُصد بكل ذلك ، من عمل أو ترك ، وجهُ الله تعالى ، كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقاً إلى الشرك في عبادته تعالى ، وفي خصائص ربوبيته . قال ابن القيم : حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق ، والتشبيه للمخلوق به . فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية . فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء ، والخوف والرجاء ، والتوكل به وحده . فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتا ولا حياة ولا نشوراً ، فضلاً عن غيره ، مشبهاً بمن له الأمر كله ، جل وعلا . فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات ، بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه ، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل ، مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة ، أن يكون له وحده . ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون لغيره . فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيه وأبطله ، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم ، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره . مع أنه كتب على نفسه الرحمة . ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين ، لا قوام لها بدونهما : غاية الحب ، مع غاية الذل . هذا تمام العبودية . وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين . فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ، فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع ، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل . ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى . إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود . فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به . ومنها التوكل ، فمن توكل على غيره فقد شبهه به . ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به ، ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا ، فمن حلف بغيره فقد شبهه به . هذا في جانب التشبيه ، وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع والرجاء ، وتعليق القلب به ؛ خوفا ورجاءً ، والتجاء واستعانة ، فقد تشبه به ، ونازعه في ربوبيته وإلهيته ، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان ، ويذله غاية الذل . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما عذبته " وكذلك من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك ، وحاكم الحكام ، ونحوه . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك ، لا مَلكَ إلا الله " . فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم ، الذي لا ينبغي إلا له ، فهو سبحانه ملك الملوك وحده يحكم عليهم كلهم ، ويقضي عليهم ، لا غيره . وتتمة هذا البحث في ( الجواب الكافي ) لابن القيم ، فانظره .