Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 24-24)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } ( الهم ) : يكون بمعنى القصد والإرادة ، ويكون فوق الإرادة ودون العزم ، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه ، وبالعزم : القصد إلى إمضائه ، فهو أول العزيمة . وهذا معنى قولهم : الهم همان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا وهو مذموم مؤاخذ به ؛ وهم بمعنى خاطر ، وحديث نفس ، من غير تصميم ، وهو غير مؤاخذ به ، لأنه خطور المناهي في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها مالم توجد في الأعيان . روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " ورواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما . فمعنى قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي : بمخالطته ، أي : قصدتها وعزمت عليها عزماً جازماً ، لا يلويها عنه صارف ، بعدما باشرت مباديها من المراودة ، وتغليق الأبواب ، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها : { هَيْتَ لَكَ } مما اضطره إلى الهرب إلى الباب . ومعنى قوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها ، كما همت به لتوفر الدواعي . ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء . قال أبو حيان : ونظيره ( قارفت الإثم لولا أن الله عصمك ) . ولا نقول : إن جواب ( لولا ) يتقدم عليها ، وإن لم يقم دليل على امتناعه ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها ، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه ، بل نقول : هو محذوف لدلالة ما قبله عليه ، لأن المحذوف في الشرط يقدر من الجنس ما قبله . انتهى . فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهمّ أصلاً . وقيل : جواب { لَوْلاۤ } لغشيها ونحوه . فمعنى ( الهم ) حينئذ ما قاله الإمام الرازي : من أنه خطور الشيء بالبال ، أو ميل الطبع ، كالصائم في الصيف ، يرى الماء البارد ، فتحمله نفسه على الميل إليه ، وطلب شربه ، ولكن يمنعه دينه عنه . وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً ، تتهيأ للشاب النامي القوي ، فتقع بين الشهوة والعفة ، وبين النفس والعقل ، مجاذبة ومنازعة ، ( فالهم ) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان جواذب الحكمة . وهذا لا يدل على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحال أشد ، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل . انتهى . وكذا قال أبو السعود : إن همه بها بمعنى ميله إليها ، بمقتضى الطبيعة البشرية ، وشهوة الشباب وقرمه ، ميلاً جبليّاً ، لا يكاد يدخل تحت التكليف ، لا أنه قصدها قصداً اختياريا . ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ، ونفرته عنه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ، وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه - عليه السلام - تسجيلاً محكماً ؟ وإنما عبر عنه بالهم ، لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر ، بطريق المشاكلة ، لا لشبهه به ، كما قيل . ولقد أشير إلى تباينهما ، حيث لم يُلَزّا في قرن واحد من التعبير ، بأن قيل : ولقد هما بالمخالطة ، أو هم كل منهما بالآخر . وصُدّر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل : { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : حجته الباهرة ، الدالة على كمال قبح الزنى ، وسوء سبيله . والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين . وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير ، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون ، وأوجب ما يجب أن يحذر منه ، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام ، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه . وجواب ( لولا ) محذوف ، يدل عليه الكلام . أي : لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي ولكن حيث كان مشاهدا له من قبل ، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان . وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام ، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة ، بل لمحض العفة والنزاهة ، مع وفور الدواعي الداخلية ، وترتيب المقدمات الخارجية ، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية . انتهى . فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام ، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس ، وخواطر الشهوة الجبلية ، ولكنهم معصومون من طاعتها ، والانقياد إليها . ولو لم توجد عندهم دواع جبلية ، لكانوا إما ملائكة أو عالماً آخر . ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي ، لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعا والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى لأن الأجر لا يكون إلا على عمل ، والترك بغير داعية ليس عملاً ، وأما الترك مع الداعية ، فهو كف النفس عما تتشوف إليه ، فهو عمل نفسي . وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم ، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ، لئلا يكونوا قدوة سيئة ، مفسدين للأخلاق والآداب ، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع ، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري . هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ، ما تلقفوه من أهل الكتاب ، ومن المتصولحين ، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام ، في همه ، التي أنزه تأليفي عن نقلها ، بردها وكلها - كما قال العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل ، تمجها الآذان ، وتردها العقول والأذهان ، ويل لمن لاكها ولفقها ، أو سمعها وصدقها . وسبقه الزمخشري ، فجود الكلام في ردها ، فلينظر ، فإنه مما يسر الواقف عليه . و { ٱلسُّوۤءَ } : المنكر والفجور والمكروه . { وَٱلْفَحْشَآءَ } : ما تناهى قبحه . قال أبو السعود : وفي قوله تعالى : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ } إلخ آية بينة ، وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية ، ولا توجه إليها قط ، وإلا لقيل : لنصرفه عن السوء والفحشاء . وإنما توجه إليه ذلك من خارج ، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة . فتأمل . و { ٱلْمُخْلَصِينَ } قرئ بكسر اللام ، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح أي : الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم . قال الشهاب : قيل إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام . فشهد الله تعالى بقوله : { لِنَصْرِفَ } إلخ ، وشهد هو على نفسه بقوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي } [ يوسف : 26 ] ونحوه ، وشهدت امرأة العزيز بقولها : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] ، وسيدها بقوله : { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } [ يوسف : 29 ] وإبليس بقوله : { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] فتضمن إخباره بأنه لم يغوه ، ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص . انتهى . عفا الله عنهم .