Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 6-6)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي : مثل ذلك الاصطفاء ، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن ، يصطفيك للنبوة والسيادة { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أي : تعبير المنامات ، وإنما سمي التعبير تأويلاً ، لأنه جعل المرئيّ آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير ، وراجعاً إليه . والأحاديث اسم جمع للحديث ، سميت به الرؤيا لأنها إما حديث مَلَكَ أو نفس أو شيطان . { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : بما سيؤول إليه أمرك { وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ } وهم أهله من بنيه ، وحاشيتهم ، أي : يسبغ نعمته عليهم بك { كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } بمن هو مستحق للاجتباء { حَكِيمٌ } في صنعه . تنبيهات الأول : قال أبو السعود : كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام ، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك ، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة . وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي . أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق ، فيجوز حينئذ أن يكون معرفته بطريق الفراسة ، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل ، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا ، لابد من توفيقه لتعبيرها ، وتأويل أمثالها ، وتمييز ما هو آفاقي منها ، مما هو أنفسي . كيف لا ، وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال ، وقوة تصرفاتها فيه ، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم ، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة ، وأقوى وقوفاً على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين ، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر . وإن هذا الشأن البديع ، لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به ، ومداراً لجريان أحكامه ، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة ، بها تظهر آثاره ، وتجري أحكامه . الثاني : استدل بالآية على أن ( الجد ) يطلق عليه اسم ( الأب ) ، فيدل أن من نسب رجلا إلى جده وقال : ( يا ابن فلان ) ؛ أنه لا يكون قذفاً . الثالث : قال المهايمي : من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر ، وجواز التحذير عن شخص بعينه ، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره ، واعتبار السبب وإن لم يؤثر ؛ وأن لكل حادث تأويلاً عند الأولياء ، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار ، وإن كان من عالم الخيال ، إذ تصور المخيلة معاني معقولة ، بصور محسوسة ، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها . والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني ، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير ، وإلا احتاجت إليه فالأخبار عن هذه الرؤيا آية ، وعما ترتب عليها آيات . بحث في الرؤيا قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه ( الذريعة ) في بحث ( الفراسة ) ما مثاله : ومن الفراسة علم الرؤيا ، وقد عظّم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة ، وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم : { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] . وقال : { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ } الآية [ الأنفال : 43 ] وقال في قصة إبراهيم : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } [ الصافات : 102 ] وقوله : { يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] . والرؤيا هي فعل النفس الناطقة ، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة . والله تعالى يتعالى عن الباطل . وهي ضربان : ضرب وهو الأكثر ، أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية ، لكون النفس في تلك الحال كالماء المتموّج ، لا يقبل صورة . وضرب وهو الأقل ، صحيح ، وذلك قسمان : قسم لا يحتاج إلى تأويل ، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة ، يفرق بين الأضغاث وبين غيرها ، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية ، ويفرق بين طبقات الناس ، إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا ، وفيهم من تصح رؤياه . ثم من صح له ذلك ، منهم يَرشّح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة ، ومنهم من لا يرشح له ذلك . ولهذا قال اليونانيون : يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك ، دون الطغام ، وذلك لأن له حظّا من النبوّة . وقد قال عليه الصلاة والسلام : " الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة " وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه وبينه ، فرب حكيم لا يرزق حذقاً فيه ، ورب نزير الحظ من الحكمة وسائر العلوم ، توجد له فيه قوة عجيبة . انتهى . وقال الأستاذ ابن خلدون : حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة ، في ذاتها الروحانية ، لمحة من صور الواقعات . فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل ، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها ، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية ، والمدارك البدنية . وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم ، كما نذكر ، فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة ، وتعود به إلى مداركها . فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً ، وغير جلي بالمحاكاة ، والمثال في الخيال لتخلطه ، فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير . وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة ، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال . والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس ، أنها ذات روحانية بالقوة ، مستكملة بالبدن ومداركه ، حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً ، ويكمل وجودها بالفعل ، فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية ، إلا أن نوعها في الروحانيات دون نوع الملائكة ، أهل الأفق الأعلى ، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ، ولا غيره . فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن . ومنه خاص ، كالذي للأولياء ومنه عامّ للبشر على العموم ، وهو أمر الرؤيا . وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة ، التي هي أعلى الروحانيات . ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي ، وهي عندما يعرج على المدارك البدنية ، ويقع فيها ما يقع من الإدراك ، شبيهاً بحال النوم شبها بينا ، وإن كان حال النوم أدنى منه بكثير . فلأجل هذا الشبه عبّر الشارع عن الرؤيا بأنها : " جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " - وفي رواية : " ثلاثة وأربعين " ، وفي رواية : " سبعين " - وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات ، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب ، بدليل ذكره السبعين في بعض طرقه ، وهو للتكثير عند العرب . وما ذهب إليه بعضهم في رواية : " ستة وأربعين " من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر ، وهي نصف سنة ، ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة ، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين - فكلام بعيد من التحقيق ؛ لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء ؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة ، وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً ، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر ، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطريّ لهم ، صلوات الله عليهم ، إذ هو الاستعداد البعيد . وإن كان عامَّا في البشر ، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل . ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، الذي هو جبليّ لهم ؛ فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق ، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب . ولذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال : " " لم يبق من النبوة إلا المبشرات " ؛ قالوا : وما المبشرات يا رسول الله ؛ قال : " الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح ، أو ترى له " " . وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، فعلى ما أصفها لك : وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيوانيّ الجسماني ، وهو بخار لطيف ، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب - على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره - وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق ، فيعطي الحس والحركة ، وسائر الأفعال البدنية ، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ ، فيعدل من برده ، وتتم أفعال القوى التي في بطونه . فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاريّ ، وهي متعلقة به ، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف . ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية ، صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته ، وهي النفس الناطقة ، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته . وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين : إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس ، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية . وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية ، التي هي مستعدة له بالفطرة . ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية ، كانت معرضة للوسن والفشل ، بما يدركها من التعب والكلال ، وتغشى الروح بكثرة التصرف ، فخلق الله لها طلب الاستجمام ، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة . وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها ، ورجوعه إلى الحس الباطن . ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل ، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن ، وتذهب من ظاهره إلى باطنه ، فتكون مشيعة مركبها ، وهو الروح الحيواني ، إلى الباطن . ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل . فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ، ورجع إلى القوى الباطنة ، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة ، تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية ، وأكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً . ثم ينزلها الحسن المشترك ، الذي هو جامع الحواس الظاهرة ، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة . وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية ، مع منازعتها القوى الباطنية ، فتدرك بإدراكها الروحانيّ ؛ لأنها مفطورة عليه ، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة ، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة . والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير ، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة ، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي - أضغاث أحلام . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرؤيا ثلاث : رؤيا من الله ، ورؤيا من الملك ، ورؤيا من الشيطان " وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه ، فالجلي من الله ، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك ، وأضغاث الأحلام من الشيطان ، لأنها كلها باطل ، والشيطان ينبوع الباطل . هذه حقيقة الرؤيا ، وما يسببها ويشيعها من النوم . وهي خواص للنفس الإنسانية ، موجودة في البشر على العموم ، لا يخلو عنها أحد منهم ، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته ، مراراً غير واحدة ، وحصل له القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم ، ولابد . وإذا جاز ذلك في عالم النوم ، فلا يمتنع في غيره من الأحوال ، لأن الذات المدركة واحدة ، وخواصها عامة في كل حال . انتهى . وذكر رحمه الله عند بحث ( علم تعبير الرؤيا ) أن التعبير لها كان موجوداً في السلف كما هو في الخلف ، وأن يوسف الصديق ، صلوات الله عليه ، كان يعبر الرؤيا ، كما وقع في القرآن . وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بكر رضي الله عنه . والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم . وأما معنى التعبير ، فاعلم أن الروح العقليّ ، إذا أدرك مدركه ، وألقاه إلى الخيال فَصوَّره ، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء ، ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير ، لجلائها ووضوحها ، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه . وللبحث تتمة سابغة ، انظرها ثمت .