Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 11-11)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } أي : لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب ، ملائكة يتعاقبون عليه { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : من جوانبه كلها ، أو من أعماله ، ما قدم وأخر { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي : يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل ، خيراً أو شراً ، بأمره وإذنه ، أو من أجل أمره لهم بحفظه . فـ ( من ) تعليلية أو بمعنى باء السببية . ولا فرق بين العلة والسبب عند النحاة ، وإن فرق بينهما أهل المعقول . وفي ( الصحيح ) : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ، وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلّون ! " . وفي الحديث الآخر : " إن معكم من لا يفارقكم إلاّ عند الخلاء ، وعند الجماع . فاستحيوهم وأكرموهم " . و ( المعقبات ) جمع معقبة . من ( عقّب ) مبالغة في ( عقَب ) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب . فهو تكثير للفعل أو الفاعل ، لا للتعْدية ، لأن ثلاثيّه متعدّ بنفسه . وأصل معنى ( العقب ) مؤخر الرِّجْل . ثم تجوّز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة . كأن أحدهم يطأ عقب الآخر . قال الراغب : عقبه إذا تلاه . نحو دَبَرَهُ وقَفَاهُ . وقيل : هو من ( اعتقب ) أدغمت التاء في القاف ؛ وردّوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين . وقد قال أهل التصريف : إن القاف والكاف ، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما . والتاء في ( معقبة ) واحدة ( المعقبات ) للمبالغة لا للتأنيث ، لأن الملائكة لا توصف به . مثل نسابة وعلامة . أو هي صفة جماعة وطائفة . و { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } ظرف مستقر صفة { مُعَقِّبَاتٌ } أو ظرف لغو متعلق بها ، و { مِّن } لابتداء الغاية ، أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبراً . والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله { وَمِنْ خَلْفِهِ } . ويجوز أن يكون ظرفاً لـ { يَحْفَظُونَهُ } أي : معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، أي : تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال ، كناية عن حفظ جميع أعماله . ويجوز أن يكون { يَحْفَظُونَهُ } صفة لـ { مُعَقِّبَاتٌ } أو حالاً من الظرف قبله ، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه . تنبيهات الأول : ما قدمناه في الآية هو الأشهر . وعن ابن عباس : هو السلطان الذي له حرس من بين يديه ومن خلفه . قال الزمخشري : أي : يحفظونه في توهمه وتقديره ، من أمر الله . أي : من قضاياه ونوازله . أو على التهكم به . قال الرازي : وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني . والمعنى : أنه يستوي في علم الله تعالى السرّ والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار المستظهر بالأعوان والأنصار وهم الملوك والأمراء ! فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات - وهم الحراس والأعوان الذين يحفظونه - لم ينجه حرسه من الله تعالى ! والمعقب العون . لأنه إذا أبصر هذا ذاك ، فلابدّ أن يبصر ذاك هذا . فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر ، فهذه المعقبات لا تخلِّص من قضاء الله ومن قدره ! وهم ، وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه ، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة ! والمقصود من هذه الجملة : بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره ، عن حفظ الله وعصمته ، ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ، ولذلك قال تعالى بعد : { وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا } الآية . الثاني : قدمنا أن الضمير في { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } لمن أسرّ أو جهر … إلخ . وأرجعه بعضهم لله ، وما بعده ( لمن ) . قال الشهاب : فيه تفكيك للضمائر من غير داعٍ . وقيل : الضمير ( لمن ) الأخير ، وقيل : للنبي لأنه معلوم من السياق . الثالث : أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سرّ اختصاص الحفظة ببني آدم ، ما ملخَّصه : إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها ؛ وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الخدر من المعاصي أقرب ؛ لأن من آمن ، يعتقد جلالة الملائكة وعلوّ مراتبهم ، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها ، زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها ، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظِّمه من البشر . وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال ، كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها . وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردعُ أكمل … ! { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } أي : من العافية والنعمة { حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } أي : من الأعمال الصالحة أو ملكاتها ، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، إلى أضدادها { وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا } أي : لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي : فلا ردّ لقضائه فيهم { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } أي : يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم . وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال . وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية ، قد غيّروا ما بأنفسهم من الفطرة ، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه - أفاده أبو السعود . تنبيه في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع ، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة ، ومالوا مع الأهواء ، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة ، حلّ بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا ، ويفرّق كلمتهم ، ويوهي قوّتهم ، ويسلط عدوّهم ! وفي حديث قدسيّ عند ابن أبي حاتم : " ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله ، فيتحوّلون منها إلى معصية الله ، إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون " . ولابن أبي شيبة : " ما من قرية ولا أهل بيت ، كانوا على ما كرهت من معصيتي ، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي ، إلى ما يحبون من رحمتي " . وقال القاشاني : لا بدّ في تغيير النعم إلى النقم ، من استحقاق جليٍّ أو خفيٍّ . وعن بعض السلف : إن الفأرة مزّقت خُفِّي . وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته ، وإلا ما سلطها الله علي ! وتمثَّل بقول الشاعر : @ لو كنتُ من ماَزِنٍ لم تَسْتَبِحْ إِبِلي @@ أقول : المنقول عن بعض السلف محمول على شدة الخوف منه تعالى ، وإلا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم ، كما أشارت له الآية . وقد جوّد الكلام في ذلك ، الإمام مفتي مصر في ( رسالة التوحيد ) في بحث الدين الإسلامي فقال : كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير ( العالم ) والكون الصغير ( الإنسان ) . فقرّر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية التي قدّرها الله في علمه الأزليّ . لا يغيّرها شي من الطواريء الجزئية . غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها . بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها . فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله " وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد ، لا يقضى فيه إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها . ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأممُ ، والمصائب التي يرزؤون بها . ففصل بين الأمرين ( الأشخاص والأمم ) فصلاً لا مجال معه للخلط بينهما . فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة ، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه ؛ فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين ، أو الفقر والضعة والضعف والفقد ، قد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان ! وكثيراً ما أمهل الله بعض الطغاة أو الفجرة الفسقة ، وترك لهم متاع الحياة الدنيا ، إنظاراً لهم ، حتى يتلقاهم ما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى ! وكثيراً ما امتحن الله الصالحين من عباده ، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه ، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة ، عبّروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] ! فلا غضب زيدٍ ، ولا رضا عمروٍ ، ولا إخلاص سريرة ، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا ، ولا في تلك النعم الخاصة ، اللهمّ إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة . كارتباط الفقر بالإسراف ، والذل بالجبن ، وضياع السلطان بالظلم . وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب ، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر . وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر … ! أما شأن الأمم فليس على ذلك ؛ فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية : من تصحيح الفكر ، وتسديد النظر ، وتأديب الأهواء ، وتحديد مطامح الشهوات ، والدخول إلى كل أمر من بابه ، وطلب كل رغيبة من أسبابها ، وحفظ الأمة ، واستشعار الأخوة ، والتعاون على البر ، والتناصح في الخير والشر ، وغير ذلك من أصول الفضائل ؛ ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] ! ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها . يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه ، حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره ! واستبدل الله عزة القوم بالذل ، وكثرهم بالقل ، ونعيمهم بالشقاء ، وراحتهم بالعناء ، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل ، ثم لا ينفعهم الأنين ، ولا يجديهم البكاء ، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ، ولا يستجاب منهم الدعاء ولا كاشفَ لما نزل بهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة ، برُسُل الفكر والذكر والصبر والشكر { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه : اللهم ! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ، ولم يرفع إلا بتوبة … ! على هذه السنن جرى سلف الأمة ! فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة ؛ كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه ، ويشق الفلَك ببكائه ، وهو ولع بأهوائه ، ماضٍ في غلوائه ، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئاً … ! ولما خوّف تعالى العباد بإنزال ما لا مردّ له ، أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله فقال سبحانه : { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ … } .