Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 68-69)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } المراد من الوحي الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة ، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض ، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات . وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتاً تأوي إليها في ثلاثة أمكنة : الجبال . والشجر . وبيوت الناس ، حيث يعرشون أي : يبنون العروش ، جمع ( عرش ) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش . وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة : الجبال والشجر وبيوت الناس . وأكثر بيوتها ما كان في الجبال وهو المتقدم في الآية ثم في الشجر دون ذلك ثم في الثالث أقل . فالنحل إذاً نوعان : جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس . وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا . ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى . فهي تتخذها أَوَّلاً . فإذا استقر لها بيت خرجت منه ، فرعت . وأكلت من الثمرات . ثم أوت إلى بيوتها . وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } أي : من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها . فالعموم عرفيّ ، أو لفَظ { كُلِّ } للتكثير . أو هو عام مخصوص بالعادة . ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز ؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات ، الأكل منها ؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة . لطيفة إنما أوثر { مِنَ } في قوله تعالى : { مِنَ ٱلْجِبَالِ } إلخ ، على ( في ) دلالة على معنى التبعيض . وأن تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . نبه عليه الزمخشريّ . قال الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض { مِنَ } المتعلقة باتخاذ البيوت . بإطلاق الأكل . كأنه تعالى وَكَلَ الأكل إلى شهوتها واختيارها . فلم يحجرُ عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الأكل حاصلة على الإطلاق باستمراء مشتهاها منه . وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت { ثُمَّ } لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات . كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت . فتوسط ( ثم ) لتفاوت الحجر والإطلاق ، فسبحان اللطيف الخبير . وقوله تعالى : { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أو على حقيقتها . أي : إذا أكلت الثمار في المواضع النائية فاسلكي راجعة إلى بيوتك ، سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها و { ذُلُلاً } جمع ذلول ، حال من ( السبل ) أي : مذللة ذللها الله لكِ وسهلها . فهي تسلك من هذا الجوّ العظيم . والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة . ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة . وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } استئناف ، عدل به عن خطاب النحل لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ، تعديداً للنعم ، وتنبيها على العبر ، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف . وسمي العسل شراباً ، لأنه يشرب مع الماء وغيره { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي : فمنه أبيض وأصفر وأحمر ، لاختلاف ما يؤكل من النَّور أو مزاجها { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض . وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين . وقلّ معجون من المعاجين ، لم يذكر الأطباء فيه العسل . وقد قام الآن مقامه السكر ، لكثرته بالنسبة إليه . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدريّ ، رضي الله عنه ، " أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : " اسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلاً فقال : يا رسول الله ! سقيته عسلاً ما زاده إلا استطلاقاً . قال : " اذهب فاسقه عسلاً " فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء فقال : يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك . اذهب فاسقه عسلاً " . فذهب فسقاه عسلاً فبرأ " . قال ابن كثير : قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات . فلما سقاه عسلاً وهو حارّ تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابيّ أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه . ثم سقاه فازداد التحليل والدفع . ثم سقاه فكذلك . فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه الصلاة والسلام . انتهى . وفي ( العناية ) للشهاب هنا ، قصة عن طبقات الأطباء ، فيها تأييد لقصة الأعرابيّ فانظرها . { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه ، وانفراده بألوهيته . وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء ، من وراء البيداء ، فتقع على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنقة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا ، وتلفظه شراباً . قال الحجة الغزالي ( في الإحياء ) : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا . وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل . وجعل أحدهما ضياءً والآخر شفاءً . ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقْدار ، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصاً وهو أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة - لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك ، وفارغاً من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك . ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتاً من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك . وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه . فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة . وشكل النحل مستدير مستطيل . فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة . ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة . فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة . ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير . ثم تتراصّ الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل . فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل ، على صغر جرمه ، ذلك . لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه . ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه . وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية . وربما هلك الملسوع . وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج . وفي طبعه أيضاً النظافة . فلذلك يخرج رجيعه من الخلية لأنه منتن الريح . وهو يعمل زماني الربيع والخريف . والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير . وهو يشرب من الماء ما كان صافياً عذبا . يطلبه حيث كان . ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة . وإذا قلّ العسل في الخلية ، قذفه بالماء ليكثر ، خوفا على نفسه من نفاذه ؛ لأنه إذا نفذ أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور . وربما قتلت ما كان منها هناك . قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالاً إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية ؛ لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل . والنحل يسلخ جلده كالحيات . وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ، ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح . وأن يفتح في كل شهر مرة . ويدخن بأخثاء البقر . وفي طبعه أنه متى طار من الخلية ، يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه . كذا في ( حياة الحيوان ) . وذكر الإمام الغزاليّ أيضاً في كتاب ( الحكمة في خلق المخلوقات ) : أن الله تعالى جعل للنحل رئيساً تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها . فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ، قتل أحدهما الآخر . وذلك لمصلحة ظاهرة ، وهو خوف الافتراق . لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجّا ، افترق النحل خلفهما . ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات مِن على الأزهار . فيستحيل في أجوافها عسلا . فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس . كما أخبر سبحانه وتعالى . وفيه غذاء وملاذ للعباد . وفيه من أقوات فضلاتٌ عظيمة جعلت لمنافع بني آدم . فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها . وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس . ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لتوعي فيه العسل وتحفظه . فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح . فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل ؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ! ثم انظر لخروجها نهاراً لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل . وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه . قال أبو السعود : ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل ، أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك . وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى : سنّ النشوء والنماء . والثانية : سن الوقوف وهي سن الشباب . والثالثة : سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة . والرابعة : سن الانحطاط الكبير وهي سنّ الشيخوخة ، فقال سبحانه : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ … } .