Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 78-79)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } عطف على قوله تعالى : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً } [ النحل : 65 ] وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } [ النحل : 70 ] وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ النحل : 71 ] أفاده أبو السعود . و { شَيْئاً } منصوب على المصدرية . أو مفعول { تَعْلَمُونَ } والنفي منصب عليه . أي : لا تعلمون شيئاً أصلا من حق المنعم وغيره . { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ } أي : فتدركون به الأصوات { وَٱلأَبْصَارَ } فتحسون المرئيات { وَٱلأَفْئِدَةَ } أي : العقول { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها والمشي على السنن الكونية . ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ } أي : مذللات { فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي : ما يمسكهن في الجوّ من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل ، إلا هو سبحانه . { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . قال الحجة الغزاليّ في الحكمة في خلق المخلوقات ، في حكمة الطير ، في هذه الآية ، ما مثاله : اعلم رحمك الله ؛ أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران . ولم يخلق فيه ما يثقله . وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه . فقسم لكل عضو منه ما يناسبه . فإن كان رخواً أو يابساً أو بين ذلك ، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به . فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله ، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه ، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه . أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه . وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جدّاً ليستغني به عن الريش في الحر والبرد . وكان من الحكمة ، خلقه على هذه الصفة ؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء . فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه . فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران . وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها . إذ لو طالت رجلاه وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره . وكثيراً ما يعان بطول المنقار أيضاً مع طول العنق ، ليزداد مطلبه عليه سهولة . ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه . وخلق صدره ودائره ملفوفاً على عظم كهيئة نصف دائرة ، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة ، وكذلك رءوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران . وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك . فمنه مخلب للتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم . ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقاً محكماً . ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر . ومنه طويل المنقار جعله صلباً شديداً شبه العظم وفيه ليونة ما هي في العظم ، لكثرة الحاجة إلى استعماله . وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان . وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصباً منسوباً فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة لأجل كثرة الطيران ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش . وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد . ومعونة متخللة الهواء للطيران . وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه ، لكثرة دعاء الحاجة إليه . وجعل في سائر بدنه ريشاً غيره كسوة ووقاية وجمالاً له . وجعل في ريشه من الحكمة ، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه . فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى خفته . وجعل له منفذاً واحداً للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته . وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه . فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يميناً وشمالاً فكان له بمنزل رَجُل السفينة الذي يعدل بها سيرها . وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته . ولما كان طعامه يبتلعه بلعاً بل مضغ ، جعل لبعضه منقاراً صلباً يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية . وصار يزدرد ما يأكله صحيحاً . وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحناً يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان . واعتبر ذلك بحبّ العنب وغيره . فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحاً وينسحق في أجواف الطير . ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد لئلا يثقل عن الطيران . فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوّق عن النهوض للطيران . أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة ؟ ! انتهى ملخصاً . ثم بيَّن تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته ، بقوله ، عطفاً على ما مرّ : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ … } .