Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 23-24)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ } أي : أمر أمرا مقطوعا به { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي : وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا . قال القاشانيّ : قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة ، لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية ، لتربيتهما إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك . وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية . والرحمة والرأفة بالنسبة إليك ، ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما ، والله غنيّ عن ذلك . فأهم الواجبات بعد التوحيد ، إذاً ، إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى . و { إِمَّا } هي ( إن ) الشرطية زيدت عليها ( ما ) تأكيداً لها . و { أَحَدُهُمَا } فاعل { يَبْلُغَنَّ } ، و { كِلاَهُمَا } عطف عليه . ومعنى { عِندَكَ } هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلاّ على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه . وذلك أشق عليه وأشد احتمالاً وصبراً . وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه ، في حال الطفولة . فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال . حتى لا يقول لهما ، إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستِسقل من مؤنهما : ( أف ) فضلا عما يزيد عليه . أفاده الزمخشريّ . وقوله : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي : تزجرهما عما لا يعجبك ، بغلظة { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيماً } أي : حسناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما . ومعنى قوله : { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } تَذَلَّلْ لهما وتواضع . وفيه استعارة مكنية وتخييلية . فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا ، وأثبت له الجناح تخييلا ، والخفض ترشيحاً . و ( خفضه ) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية . أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح ، والخفض ترشيح . و ( الجناح ) الجانب كما يقال : ( جناحا العسكر ) وخفضه مجاز . كما يقال ( ليّن الجانب ) و ( منخفض الجانب ) وإضافة الجناح إلى الذل للبيان . لأنه صفة مبيّنة أي : جناحك الذليل . وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر . فكأنه جعل الجناح عين الذل . أو التركيب استعارة تمثيلية . فيكون مثلا لغاية التواضع . وسر ذكر الجناح وخفضه ، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس . و ( مِن ) في قوله تعالى : { مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } ابتدائية على سبيل التعليل . أي : من فرط رحمتك لهما ، وعطفك عليهما ، لكبرهم وافتقارهما اليوم ، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وافتقارُ المرء إلى من كان مفتقراً له ، غاية في الضراعة والمسكنة . فيرحمه أشد رحمة . كما قال الخفاجيّ : @ يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله ؟ ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجاً إلى عامله @@ وقوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } أي : رب ! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك ، كما تعطفا عليّ في صغري ، فرحماني صغيراً حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما . قال الزمخشري : أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادْعُ الله بأن يرحمهما رحمته الباقية . واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والكاف للتعليل . أي : لأجل تربيتهما لي . قال الطيبيّ : الكاف لتأكيد الوجود . كأنه قيل : رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله : { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] . وهو وجه حسن . تنبيه استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام ؛ لأنه وقت فاضل . وقد جمعتُ من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما ، جملة ضممتها لكتابي ( الأوراد المأثورة ) . لا أزال أدعو لهما بها في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته ، لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره .