Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 32-36)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي : مستكبراً عن طاعته وأمره { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذٰلِكَ } أي : الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة { عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } أي : لا ما يصفه به النصارى . وهو تكذيب لهم ، فيما يزعمونه على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني . حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه { قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : ومنَ هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد ؟ وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 - 60 ] ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده ، بقوله سبحانه : { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي : قويم . من اتبعه رشد وهدى . ومن خالفه ضلَّ وغوى . تنبيهات في فوائد هذه القصة الأول : لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكيّاً طاهراً مباركا ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب . فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران ، وههنا ، وفي سورة الأنبياء . يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ؛ ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه . وأنه على ما يشاء قدير . و { مَرْيَمَ } هي بنت عمران . من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل . وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران . وأنها نذرتها محررة للعبادة . وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة . فكانت إحدى الناسكات المتبتلات . وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره ، فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا . كما تقدم في سورة آل عمران . الثاني : استدل بقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] من قال بنبوة مريم . واستدل بقوله تعالى عنها : { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } [ مريم : 23 ] على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال . وبقوله تعالى : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [ مريم : 25 ] على التسبب في الرزق ، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل : @ ألم تر أنَّ اللهَ قالَ لمريمٍ وهُزِّي إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرطَبْ ولو شاء أحنى الجذعَ من غير هزَّهِ إليها . ولكن كلُّ شيء لَهُ سَبَبْ @@ وفي الآية أصل لما يقوله الأطباء ، إن الرطب ينفع النساء . واستدل بقوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] بعدَ { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] على أن الحالف ( لا يتكلم أو لا يكلم فلانا ) لا يحنث بالإشارة . وعلى أن السكوت عن السفيه واجب ، كما استنبطه الزمخشري ، قال : ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها . وفي قوله تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] معنى قولهم في المثل : من أشبه أباه فما ظلم . وفيه أيضاً تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش . الثالث : نقل الرازي عن القاضي في قوله تعالى : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } [ مريم : 33 ] الخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان . ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات . فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى أنه فعله بيحيى . ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة . وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة : وهي يوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث . فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى ، طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال . الرابع : قال القاشاني : وإنما تمثل لها بشراً سويّ الخلق حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس . فتتحرك على مقتضى الجبلة . ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة . فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد . وقد مر أن الوحي قريب من المنامات الصادقة ؛ لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم . فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا ( قلباً ) والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية ، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن . وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة . لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد ، بمنزلة الإنفحة في الجبن . ومني الأنثى بمنزلة اللبن ، أي : العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى . لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة , بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى . والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى . وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئاً واحداً . ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءاً من الولد . فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قوياً ذكوريا ، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى ، وكان مزاج كبدها حارّاً ، كان المنيُّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيراً من الذي ينفصل من كليتها اليسرى . فإذا اجتمعا في الرحم ، كان مزاج الرحم قويّاً في الإمساك والجذب ، قام المنفصل في الكلية اليمنى ، مقام الذكر في شدة قوة العقد . والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد ، فيتخلق الوالد هذا . وخصوصاً إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس ، متقوية ، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحانيّ ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس . والله أعلم . ثم قال في قوله تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] في اللوح مقدراً في الأزل . وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] فدنا منها فنفخ في جيب الدرع ، أي : البدن ، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا . كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سبباً للإنزال . وقيل : إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها . والحق أنه روح القدس . لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال : { لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] . واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم ، واستقرارها فيه ، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجاً صالحاً لقبول الروح . انتهى . الخامس : التمثّل مشتق من المثل . ومعناه التصور . وفيه دليل على أن الملَك يتشكل بشكل البشر . قال إمام الحرمين : تمثلُ جبريل معناه : أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه . لم يعيده إليه بعدُ . وجزم ابن عبد السلام : بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته ، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّاً . لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً ، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة . وقال البلقيني : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه . بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصلي . إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل . وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته . ومثال ذلك القطن ، إذا جمع بعد أن كان منتفشاً . فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة ، وذاته لم تتغير . وهذا على سبيل التقرب . والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً ، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه . الظاهر أيضاً أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى ، بل يخفى على الرائي فقط . والله أعلم . كذا قال ابن حجر في فتح الباري . ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب ، واقتفاء ما لم يحط بكنهه . فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ ؛ لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل . ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع . وكل ما كان كذلك فليس من شاننا أن نبحث فيه . فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة . السادس : قال بعضهم : أصل كلمة ( عيسى ) : يسوع . فحرفه اليهود إلى ( عيسو ) تهكما فحوله العرب إلى ( عيسى ) تشبها باسم موسى . ولبدل الواو بالألف سبب مبني على قواعد اللغة العبرانية ، بل والعربية . انتهى .