Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 152-152)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } قال ابن جرير : أي : اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم . وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي ، وهي بمعنى ما قبله . وقوله : { وَٱشْكُرُواْ لِي } قال ابن جرير : أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } أي : لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم . قال السمرقندي : أي اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة . هي العلم ، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة . وليس بنعمة ، والعلم لا يملّ منه صاحبه ، بل يطلب منه الزيادة ، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثة رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ، كما قصه الحراليّ . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل ، تعالى ذكره ، لهم عوض ما كانوا يذكرون ، كما جعل كتابه عوضاً من أشعارهم . وعزّ عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إليّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة " صحيح الإسناد أخرجه البخاريّ أيضاً . وروى مسلم عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . والآثار في فضل الذكر متوافرة . ويكفي فيه هذه الآية الكريمة . تنبيه قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها . بل كل عامل لله تعالى بطاعةٍ ، فهو ذاكر لله تعالى . كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام . كيف تشتري وتبيع ، وتصلي وتصوم ، وتنكح وتطلّق . وأشباه هذا . وقال النووي أيضاً : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض ، وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتباً نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين كتاب ( الأذكار " للنوويّ ) ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في ( زاد المعاد ) . وقال في طليعة ذلك : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكراً لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكراً منه لله . وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكراً منه له . وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكراً منه له . وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكراً منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً ، وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ومسيره ، ونزوله وظعنه وإقامته . انتهى . وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة ، والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى . ولا يعدّونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة . حتى قال الشافعيّ : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه ( التغبير ) يصدّون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك . ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً . ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم . ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر . فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية . وهو سماع المشركين . قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عبادة . وأما النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر نحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية . ولم يجتمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط . لا بكف ولا بدف ولا تواجد . وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحداً منهم أن يقرأ . والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعريّ : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . " ومر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : " مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك " . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً " أي : لحسنته لك تحسيناً . كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " زينوا القرآن بأصواتكم " وقال صلى الله عليه وسلم : " لله أشد أذَناً ( أي : استماعا ) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته " وعن عبد الله بن مسعود قال : " قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم : " اقرأ عليّ " ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أُنزل ؟ قال : " نعم " . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] قال : " حسبك الآن " . فالتفت فإذا عيناه تذرفان " . ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] ، وقال تعالى في أهل المعرفة : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] ، ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [ الأنفال : 2 ] ، فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه . ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ . فليُفِقْ من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره . وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليُدَاوِ جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال ، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن . وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها . وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العِبر . فحق المؤمن ألا ينفك أبداً عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : { وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } فيه أمْرٌ بشكره على نعمه وعدم جحدها ( فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب ) . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و { لِي } أفصح وأشهر مع الشكر .