Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 154-154)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتاً . بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات ، كما يتبادر من معنى الميت ، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم : الأحياء ، لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، كما قال تعالى في آل عمران : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 169 - 171 ] ، فقوله في هذه الآية : { عِندَ رَبِّهِمْ } يفسر المراد من حياتهم . أي : إنها لأرواحهم عنده تعالى . وقوله : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : بحياتهم الروحية بعد موتهم . إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم ، وإن حفظ بعضها عن التلف . كما ترون النيام هموداً لا يتحركون . فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ، ولا عيش أرغد منه في الآخرة . قال الحراليّ : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه ، حتى في أن يقال عنه : ميت ، فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم ، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر . انتهى . ولذا قال الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى ، وقولوا لهم : الشهداء الأحياء . وقال الراغب الأصفهاني : الحياة على أوجه . وكل واحد منها يقابله موت . الأولى : هو القوة النامية التي بها الغذاء ، والشهوة إليه . وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان . ولذلك يقال : نبات حيّ . والثانية : في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية . وهي في الحيوان دون النبات . والثالثة : القوة العاملة العاقلة . وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات . وبها يتعلق التكليف . وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح : حياة . وعلى ذلك قوله تعالى : { ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] وقيل : المحسن حيّ وإن كان في دار الأموات . والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء . قال : ونعود إلى معنى الآية فنقول : قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء ، ولا الحياة التي بها الحس . فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول . فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان ، وقال : إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس . قال : والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة ، التي هي الروح ، البدنَ . فمتى كان الإنسان محسناً كان منعّماً بروحه مسروراً لمكانه إلى يوم القيامة . وإن كان مسيئاً كان به معذباً . وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة . وهو مذهب أصحاب الحديث ، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها . ومما دل على صحته خبر " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " ، وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عامٍ " ، وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش - يوم بدر - وجمعوا في قَلِيبٍ ، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فأني وجدت ما وعدني ربي حقاً " قيل : يا رسول الله ! أتخاطب جيفاً ؟ فقال : " ما أنتم بأسمع منهم ، ولو قدروا لأجابوا " إلى غير ذلك من الأخبار . وقال تعالى في آل فرعون : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] ، وهذا يعني به قبل يوم القيامة ، لأنه قال في آخر الآية : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] انتهى . وفي البيضاويّ وحواشيه : " إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد ، وفساد البنية ؛ ونَفْيَ الشعور بها - دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد ، ولا من جنس حياة الحيوان ، لأنها بصحة البنية ، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يُدرك بالوحي لا بالعقل " انتهى . وقد جاء الوحي ببيان حياتهم - كما أسلفنا - قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح : وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ، ورزقها دارٌ ، وإلاّ فالأبدان قد تمزّقت . وقد فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة : بأنّ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربّهم اطَّلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أيّ شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا … ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يُتركوا مِن أنْ يُسألوا - قالوا : يا ربِّ ! نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرةً أخرى … ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم : " إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلُق من ثمر الجنة " ( وتعلق بضم اللام - أي : تأكل العلقة ) وهذا صريح في أكلها ، وشربها ، وحركتها ، وانتقالها ، وكلامها … ! انتهى . قال الطيبيّ : قوله صلى الله عليه وسلم : " أرواحهم في جوف طير خضر " أي : يخلق لأرواحهم ، بعد ما فارقت أبدانهم ، هياكل على تلك الهيئة تتعلق بها وتكون خلفاً عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال ابن القيم : في كتاب ( لروح ) : " إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار . وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها . وركب هذا الإنسان من بدن ونفس . وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان ، والأرواحُ تَبَعٌ لها ، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافه ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدانُ تَبَعٌ لها . فكما تبعت الأرواح الأبدانَ في أحكام الدنيا ، فتألمت بألمها ، والتذّت براحتها ، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب - تبعث الأبدانُ الأرواح في نعيمها وعذابها ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم ، فالأبدان هنا ظاهرة ، والأرواح خفية . والأبدان كالقبور لها ، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها . فتجري أحكام البرزخ على الأرواح . فترى إلى أبدانها نعيماً وعذاباً . كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيماً وعذاباً . فَأحِطْ بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي ، يَزُل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج . وقد أرانا الله سبحانهُ بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك . أنموذجاً في الدنيا من حال النائم . فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلاً ، والبدن تَبَعٌ له . وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً ، فيرى النائم أنه في نومه ضُرِبَ ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه ، ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه . ويذهب عنه الجوع والظمأ . وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك ، لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه . ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ . فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم . فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع . فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً . ومتى أعطيتَ هذا الموضع حقه تبيّن لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة - مطابق للعقل . وأنه حق لا مرية فيه ، وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقله علمه . انتهى .