Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 164-164)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } - في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع - { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي : اعتقابهما وكون كل منهما خلفاً للآخر ، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر يعقبه لا يتأخر عنه لحظة كقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً كما قال : { يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ } [ الحج : 61 ] ، أي : يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك . { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } أي : في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليمٍ لغيره . قال الراغب : ولما لم يكن فرق بين أن يقال : { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } وبين أن يقال : والبحر الذي يجري فيه الفلك ، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإنّ أخر في اللفظ ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا . ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه - قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى . أ . هـ . { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي : المزن { مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ } بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليبوسة عليها { وَبَثَّ فِيهَا } أي : نشر وفرق { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } من العقلاء ، وغيرهم { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } أي : تقليبها في مهابها : قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً . وفي أحوالها : حارةً وباردةً وعاصفةً ولينة ، فتارة مبشرة بين يدي السحاب ، وطوراً تسوقه ، وآونة تجمعه ، ووقتاً تفرقه ، وحيناً تصرفه . قال الثعالبي : إذا جاءت الريح بنَفَس ضعيف ورَوْح فهي النسيم ، فإذا كانت شديدة فهي العاصف ، فإذا حركت الأغصان تحريكاً شديداً وقلعت الأشجر فهي الزعزَعان والزعزع . فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة ، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ويقال لها : زوبعة أيضاً ، فإذا هبت بالغبرة فهي الهَبْوة ، فإذا كانت باردة فهي الصرصر ، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل ، فإذا كانت حارة فهي الحَرُور والسّموم ، فإذا لم تُلقح شجراً ولم تحمل مطراً فهي العقيم . ومما يذكر منها بلفظ الجمع : الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار ، واللواقح التي تلقح الأشجار ، والمعصرات التي تأتي بالأمطار ، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث . { وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي : فلا يهوى إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء - كما تهوي بقية الأجرام العالية - حيث لم يكن لها ممسك محسوس ، ولا يعلو ، ولا ينقشع ؛ مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة : فالكثيف يقتضي النزول ، واللطيف يقتضي العلو ، والمتوسط يقتضي الانقشاع . ذكره البقاعيّ . لطيفتان الأولى : قال الثعالبي : أول ما ينشأ السحاب فهو النَّشْء ، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب ، فإذا تغيرت له السماء فهو الغمام ، فإذا أظل فهو العارض ، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثُف وأطبق فهو العماء ، فإذا عنّ فهو العَنان ، فإذا كان أبيض فهو المزن . الثانية : قال الراغب : التسخير القهر على الفعل . وهو أبلغ من الإكراه . فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجهٍ ، كحمل الرحى على الطحن . ا . هـ . وقوله تعالى : { لآيَاتٍ } : أي : عظيمة كثيرة ، فالتنكير للتفخيم كمّاً وكيفاً { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول ، فيستدلون على قدرته ، سبحانه ، القاهرة ، وحكمته الباهرة ، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جلّ شأنه . قال البقاعيّ : وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوته . فجعل سبحانه العَالَمَ - وهو الممكنات الموجودة ، وهي جملة ما سواه ، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار - على قسمين : قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى في عرف أهل الشرع : الشهادة والخلق والملك . وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى : الغيب والأمر والملكوت . والأول يدركه عامة الناس ، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس . فالله تعالى - بكمال عنايته ورَأفته ورحمته - جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوهٍ متعدّدة ، وطرقٍ متكثرة ، تعجز القوى البشرية عن ضبطها ، يستدلّ بها على وحدانيته ، بعضها أوضح من بعض ، ليشترك الكل في المعرفة ، فيحصل لكلٍ بقدر ما هُيِّئ له ، اللهم إلا أن يكون ممن طُبع على قلبه ، فذلك - والعياذ بالله - هو الشقيُّ . انتهى . قال المهايمي : وكيف ينكرون وجود الله ، وتوحيده ، ورحمانيته ، ورحيميته ، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات . ثم قال : أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان ؛ لأن لهما أجزاء يفتقران إليها ، فلا بدّ لها من محدِث ليس بعضَ أجزائهما ، لأنه دخله التركيب الحادث ، والقديم لا يكون محلاً للحوادث ، والمحدِث لا بدّ أن يكون قديماً قطعاً للتسلسل . وعلى التوحيد ، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر . وعلى الرحمتين ؛ لأنه عز وجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السماوات . وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله ، فلحدوثهما من حركات السماوات ولا بد لها من محرك ، فإن كان حادثاً فلا بدّ له من محدث . وعلى التوحيد ؛ فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له ، فيلزم اجتماعهما وهو محال . فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما . وعلى الرحمتين ؛ فلأنّ الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما ، إذْ دوام الليل مبرِّد في الغاية ، ودوام النهار مسخِّن له في الغاية . وأما دلالة الفلك على وجود الإله ، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها ، فإمساكها فوق الماء من الله . ودخول الهواء فيها - وإن كان من الأسباب - فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة ، إذ يقلّ الهواء جداً فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جداً ، فلا ينبغي أن ينسب إلا إلى الله تعالى من أوَّلِ الأمر ؛ وعلى التوحيد ؛ فلأن إله الفُلْك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه ، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك ؛ وعلى الرحمتين ؛ فلأنه رحم المسافرين بالتجارات ، والمسافَر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها . وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله ؛ فلأنه أثقل من الهواء ، فوجوده في مركزه لا يكون إلا من الله . وعلى التوحيد ؛ فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء ، لمنع من التصرف في ملكه . وعلى الرحمتين ؛ فلأنَّه أحْيَى به الأرض معاشاً للحيوانات ، وبثّ به الدواب تكميلاً لمنافع الإنسان . وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله ؛ فلأنها حادثة تحدث هذه مرةً وهذه أخرى ، وقد يعدم الكلّ ، فلا بدّ من محدث ، فإنْ كان حادثاً افتقر إلى قديم . وعلى التوحيد ؛ فلأنه لو كان لكلّ ريح إله لأمكن للكلّ أن يأتي بما له ، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخلّ بالنظام . وعلى الرحمتين ؛ فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار . وأما دلالة السحاب على وجود الإله ؛ فلأنه لو كان ثقيلاً لنزل ، أو كان خفيفاً لصعد ، لكنه يصعد تارةً وينزل أخرى فهو من الله تعالى ، وأما على التوحيد ؛ فلأن إله السحاب لو كان غير إله السحاب الآخر ، لأمكن لكلّ واحدٍ أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر ، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز . وعلى الرحمتين ؛ فلأن منها الأمطار . وله وجوه آخر من الدلالات وفوائد غير محصورة ، قنعنا بما ذكرنا . قال القاضي عبد الجبار : الآية تدلّ على أمورٍ : أحدها : لو كان الحقّ يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صحّ ذلك . وثانيها : لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صحّ وصف هذه الأمور بأنها آيات ، لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات . وثالثها : أنّ سائر الأجسام والأعراض ، وإن كانت تدلّ على الصانع ، فهو تعالى خصّ هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظّ ونصيبٍ ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيراً في الخواطر . نقله الرازيّ . ثم إن الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده ، وتوحيده ، رحمته ، ليخصّه الخلق بالمحبة والعبادة .