Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 173-173)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } وهي في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة - إمّا في الفاعل أو في المفعول - فدخل فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة ، وما عدا عليها السبُع . قال ابن كثير : وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر ، لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وحديث العنبر في الصحيح . وفي المسند ، والموطّأ ، والسنن : قوله صلى الله عليه وسلم في البحر : " هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته " . وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدارقطنيّ حديث ابن عمر : " أحلت لنا مَيتتان ودمان ، فأما الميتتان الحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " { وَٱلدَّمَ } وهو المسفوح أي : الجاري ، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى - والمفسّر قاضٍ على المبهَم - وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمّونه الفصيد . وفي القاموس وشرحه : والفصيد دمٌ كان يوضع في الجاهلية في مِعىً مِنْ فَصْدِ عرق البعير ، ويشوى ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة . ويحكى : أنه بات رجلان عند أعرابيّ فالتقيا صباحاً ، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى ، فقال : ما قريت وإنما فُصِدَ لي . فقال لم يُحْرَمْ من فُصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلاً لمن نال بعض المقصد ، وسكّن الصاد تخفيفاً ، أي : لم يحرم القرى مَنْ فصدت له الراحلة فحظى بدمها . ويروى : من فزْد له - بالزاي بدل الصاد - وبعضهم يقول : من قصد له - بالقاف - أي : من أعطى قصداً قليلاً . وكلام العرب بالفاء . وقال يعقوب : تأويل هذا أنّ الرجل كان يضيف الرجل في شدّة الزمان ، فلا يكون عنده ما يقريه ، ويشحّ أنْ ينحر راحلته ، فيفصدها ، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أنْ يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه . { وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه : إمّا تغليباً ، أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغةً ، لأنه ما لَحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه ، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده . وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر ، وهو هنا على أصله في اللغة . وإما بطريق القياس على رأيٍ ؛ لأنّه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل - وهو أطيب ما فيه - كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم . ولمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس ، حرّم ما يرين على القلب ، فقال : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } أي : ذُبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . وأصل الإهلال رفع الصوت أي : رفع به الصوت للصنّم ونحوه ، وذلك كقول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّي . وذكر القرطبيّ عن ابن عطيّة : أنه نقل عن الحسن البصريّ أنّه سئل عن امرأة عملت عرساً لِلُعَبِها ، فنحرت فيه جزوراً ، فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم . وذكَر أيضاً عن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت : ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، وكلوا من أشجارهم . والقَصْدُ سَدُّ ما كان مظنَّةً للشرك . قال النوويّ في شرح مسلم : فإنْ قصد الذابح - مع ذلك - تعظيمَ المذبوح له ، وكان غير الله تعالى - والعبادة له ، كان ذلك كفراً . فإن كان الذابح مسلماً ، قبل ذلك ، صار بالذبح مرتداً . ذكره في الكلام على حديث عليّ رضي الله عنه : " لعن الله من ذبح لغير الله " . قال الحراليّ : وَذِكْرُ الإهلال إعلامٌ بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم ، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يُعلم من خفيّ الذكر . وقد روى البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها قالت : " إن قوماً قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : " سموا عليه أنتم وكلوه " قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر . فكأنَّ المحرّم ليس ما لم يعلم أنّ اسم الله ذكر عليه ؛ بل الذي علم أنّ غير اسم الله قد أعلن به عليه . وروي عن عليّ رضي الله عنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلّون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا ، فإن الله قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون . فصل فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات فأما الميتة : فقال الحراليّ : هي ما أدركه الموت من الحيوان - عن ذبول القوّة وفناء الحياة - وهي أشدّ مفسد للجسم ، ولفساد تركيبها بالموت ، وذهاب تلزز أجزائها ، وعفنها ، وذهاب روح الحياة والطهارة منها . وقال المهايميّ في تفسيره : ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم وهو الميتة وما ذكر معها . فأمّا الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهّر من الذبح باسم الله - تحقيقاً أو تقديراً - فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث . فينقطع عنها محبة الله . وإنما أبيح ميتة السمك لأنّ أصله الماء المطهر ، فكما لا يؤثر فيه النجاسة ، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه ؛ والجراد لأنّه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات . وأمّا خبث الدمّ : فلأنّه جوهر مرتكس عن حال الطعام ، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء ، فهو ميتة . وقال الإمام ابن تيمية : حرّم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية ، وزيادته توجب طغيان هذه القوى ، وهو مجرى الشيطان من البدن ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " . وأمَّا خبث لحم الخنزير : فَلأَذاه للنفس - كما حرّم ما قبله لمضرّتها في الجسم - لأنّ من حكمة الله في خلقه : أنّ من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء : " الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم " . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة ، حرّم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق . نقله البقاعيّ . وقد كُشِف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير - المبنية على التجارب الحسّية - غير ما قالوه القدماء . فمن مضارّه : أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة : كالمغص ، والإسهال ، والقيء ، وفقد شهوة الطعام أو النهم الشديد ، وآلام الرأس ، والإغماء ، والدوار ، واضطراب الفكر ، وعروض نوبات صرعية ، وتشنّجات عصبية ، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّي ، ويودي بحياة المصاب … إلى غير ذلك من التعب ، وعسر الهضم ، ومضار سواها . قال حكيم : فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط ، بل لإصلاح الروح والجسم معاً … ! فلم يترك ضاراً لأحدهما إلا ونبّه عليه تصريحاً أو تلويحاً … وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة . وأما خبث المهلّ به لغير الله : فلأنه يَرين على القلب ، لأنه تقرّب به لغير موجده وخالقه تقرُّبَ عبادة ، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ؛ فكان خبثه معنوياً لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن ؛ والشرع جاء للحفظ عما يضرّ مطلقاً ، ولصيانة مقام التوحيد . ولما كان هذا الدين يُسْراً لا عُسْرَ فيه ولا حَرَج ، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر . فقال : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ } أي : ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأنْ أشرف على التلف ، فأكل من شيء منه حال كونه : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالبٍ له راغب فيه لذاته . من بغى الشيء وابتغاه : طلبه وحرص عليه { وَلاَ عَادٍ } أي : مجاوزٍ لسدّ الرمق وإزالة الضرورة { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } وإن بقيت حرمته ، لأنّه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنّه كارهٌ بالطبع . وقال الراغب : واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسدّ غيره مسدّه . والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلّة المذكورة ، يعني : إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه ، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع . { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } لما أكله حال الضرورة : { رَّحِيمٌ } حيث رخّص لعباده في ذلك إبقاءً عليهم . ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه - إثْر ما ذكره من الأحكام - تحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به ، وهم أهل الكتاب ، فقال سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ … } .