Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 187-187)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } إرشاد إلى ما شرعه في الصوم - بعد بيان إيجابه على من وجب عليه ، وحاله معه حضراً أو سفراً ، وعدّته - من إحلال غشيان الزوج ليلاً . وكأنّ الصحابة تحرّجوا عن ذلك ظناً أنّه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صَبْرَ لأنفسهم عنه ، فبيّن هم أن ذلك حلال لا حرج فيه . وقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : لمّا نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } . إيذاناً بأنه أحلّه ولم يحرّمه ؛ إذْ لم يشرع من فضله ما فيه إعنات وحرج . والرفث : أصله قول الفحش . وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه . كما كنى عنه في قوله : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [ الأعراف : 189 ] ، وقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] ، فالله تعالى كريم يكنى ، وإيثار الكناية عنه - هنا - بلفظ الرفث الدال على معنى القبح - عدا بقية الآيات - استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه اختيانا لأنفسهم . والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب . وللثعالبيّ في آخر كتابه فقه اللغة فصل في ذلك بديع . ثم إنّ المستعمل الشائع : رفث بالمرأة - بالباء - وإنما عدى هنا بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ، كما في قوله : { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] . { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السَّوْأة . وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار ، وسمّي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه عن تعاطي القبيح . وهذا ألطف من قول بعضهم : شبّه كل واحد من الزوجين - لاشتماله على صاحبه في العناق والضمّ - باللباس المشتمل على لابسه ، وفيه قال الجعدي : @ إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنّت فكانت عليه لباسا @@ وقال الزمخشري : فإنْ قلتَ : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلّ صبركم عنهن ، وصعب عليكم اجتنابهنّ ؛ فلذلك رخّص لكم في مباشرتهنّ . { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب وهو اختيان النفس ، أي : قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها . ومنه : خانَتْهُ رِجلاه إذا لم يقدر على المشي . أي : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحلّ لكم ذلك فأحله رحمة بكم ولطفاً ، وفي الاختيان وجه آخر وهو : أنّه عنى به مخالفة الحقّ بنقض العهد ، أي : كنتم تظلمونها بذلك - بتعريضها للعقاب - لو لم يحلّ ذلك لكم . قالوا : والاختيان أبلغ من الخيانة - كالاكتساب من الكسب - ففيه زيادةٌ وشدة . ثمّ أشار تعالى إلى لطفه بالمؤمنين بتخفيفه ما كان يغلّهم ويثقلهم ويخونهم لولا رحمته ، بقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : عاد بفضله وتيسيره عليكم برفع الحرج في الرفث ليلاً : { وَعَفَا عَنْكُمْ } أي : جاوز عنكم تحريمه ، فالعفو بمعنى التوسعة والتخفيف . { فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ } قال أبو البقاء : حقيقة الآن الوقت الذي أنت فيه ؛ وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب وقوعه . تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر وهو المراد - هنا - لأنّ قوله : { فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ } أي : فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه ؛ فعلى هذا الآن ظرف ! { بَٰشِرُوهُنَّ } . وقيل : الكلام محمول على المعنى ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهنّ . ودلّ على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة . فعلى هذا ، الآن على حقيقته . وأصل المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة . كنى بها عن الجماع الذي يستلزمها { وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } تأكيد لِمَا قبله ، أي : ابتغوا هذه الرخصة التي أحلّها لكم . و { كَتَبَ } هنا ، إمّا بمعنى جعل كقوله : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] ، أي : جعل ، وقوله : { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ } [ آل عمران : 53 ] ، { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 156 ] ، أي : أجعلها . أو بمعنى قضى ، كقوله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] ، أي : قضاه ، وقوله : { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقوله : { لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ } [ آل عِمْرَان : 154 ] أي : قضى . قال الراغب : في الآية إشارة في تحري النكاح إلى لطيفةٍ . وهي : أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية ! كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ! فحقّ الإنسان أن يتحرّى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة . فمتى تحرّى به حفظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع ، فقد ابتغى ما كتب الله له . وإلى هذا أشار من قال : عنى الولد . { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } أباح تعالى الأكل والشرب - مع ما تقدم من إباحة الجماع - في أيّ : الليل شاء الصائم إلى أنّ يتبيّن ضياء الصباح من سواد الليل . وشُبِّهَا بخيطين : أبيض وأسود ، لأنّ أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتدّ معه من غبش الليل ، كالخيط الممدود . قال أبو دُؤاد الإيادي : @ فلما أضاءت لنا سدفةٌ ولاح من الصبح خيطٌ أناراً … ! @@ وقوله : { مِنَ ٱلْفَجْرِ } بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني . وقد رفع بهذا البيان الالتباسَ الذي وقع أول أمر الصيام . كما روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال : أنزلت { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ } ولم ينزل من { مِنَ ٱلْفَجْرِ } وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعده { مِنَ ٱلْفَجْرِ } فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، ورويا أيضاً . واللفظ لمسلم - عن عدي بن حاتم قال : " لما نزلت : { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } قال له عدي : يا رسول الله ! إنّي أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، أعرف الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار " " . قال ابن كثير : ومعنى قوله : " إن وسادك لعريض " أي : إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية ؛ فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب … ! وجاء في بعض هذه الألفاظ : " إنك لعريض القفا " . ففسرّه بعضهم بالبلادة - وهو ضعيف - بل يرجع إلى هذا ؛ لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض ، والله أعلم . انتهى . وفي الإتيان بلفظ التفعّل في قوله تعالى : { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ … } إشعار بأنه لا يكفي إلا التبيّن الواضح لا تباشير الضوء . وقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرّنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا " وحكاه حماد بيديه ، قال : يعني معترضاً . وفي لفظ آخر عنه : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر " - أو قال : - " حتى ينفجر الفجر " وروى الإمام أحمد عن قيس بن طلق عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الفجر المستطيل في الأفق ، ولكنه المعترض الأحمر " ورواه الترمذي بلفظ : " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد ، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " قال : وفي الباب عن عديّ بن حاتم وأبي ذرّ وسمرة . ثم قال : حديث طلق بن عليّ حديثٌ حسن غريبٌ من هذا الوجه ، والعمل على هذا - عند أهل العلم - أنّه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض ، وبه يقول أهل العلم . انتهى . قال بعضهم : المراد بالأحمر الأبيض ، كما فسّر به حديث : " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال شمر : سموا الأبيض أحْمَرَ تطيّراً بالأبرص . حكاه عن أبي عمرو بن العلاء . ويظهر أنّه لا حاجة إلى هذا ، فإنّ طلوع الفجر يصحبه حمرة . وفي القاموس الفجر ضوء الصباح ، وهو حمرة الشمس في سواد الليل . فافهم . وقال الحافظ عبد الرزاق في مصنّفه : أخبرنا ابن جريج عن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران ، فأمّا الذي يسطع في السماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئاً . ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب ! . وقال عطاء : فأمّا إذا سطع سطوعاً في السماء - وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً - فإنه لا يحرم به شرابُ للصائم ، ولا صلاةٌ ، ولا يفوت به الحجّ . ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام ، وفات الحجّ . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء . وهكذا روى عن غير واحدٍ من السلف رحمهم الله … ! انتهى . { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ } أي : صوم كلّ يوم { إِلَى ٱلَّليْلِ } أي : إلى ظهور الظلمة من قبل المشرق وذلك بغروب الشمس . وكلمة إلى تفيد أن الإفطار عند غروب الشمس . كما جاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " . قال ابن القيّم : أي : أفطر حكماً وإن لم ينوه . أو دخل في وقت فطره ، كما في : أصبح وأمسى . وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجل الفطر ويحضّ عليه ، كما في الصحيحين : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : إن أحبّ عبادي إليّ أعجلهم فطراً " ورواه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب . وعن أنس بن مالك قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر ، قبل أن يصلّي ، على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء " رواه الترمذي . وقال : حسن غريب . وروى الإمام أحمد عن ليلى ، امرأة بشير بن الخصاصية ، قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلةً فمنعني بشير وقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " يفعل ذلك النصارى ، ولكن صوموا كما أمركم الله ثمّ أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " . ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة ، النهي عن الوصال . وهو : أن يصل يوماً بيوم ولا يأكل بينهما شيئاً . ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " لا تواصلوا " . قالوا : إنك تواصل ، قال : " لستُ كأحدٍ منكم ، إنّي أطعم وأسقى - أو إنّي أبيت أطعم وأسقى " قال الترمذي : وفي الباب عن عليّ ، وأبي هريرة ، وعائشة وابن عمر ، وجابر ، وأبي سعيد ، وبشير بن الخصاصية . أي : فالنهي عنه قد ثبت من غير وجهٍ . نَعَمْ ! من أحبّ أن يواصل إلى السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " ، قالوا : فإنّك تواصل يا رسول الله . قال : " لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مُطعم يطعمني وساقٍ يسقيني " أخرجاه في الصحيحين . والمراد بهذا الطعام والشراب ، ما يغذّيه الله به من المعارف ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعّمه بحبّه ، والشوق إليه ؛ وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب ، ونعيم الأرواح ، وقرّة العين ، وبهجة النفوس والروح والقلب . بما هو أعظم غذاء ، وأجوده ، وأنفعه . وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدّة من الزمان . ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثيرٍ من الغذاء الحيوانيّ ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه ، وتنعمّ بقربه والرضاء عنه ، وألطافُ محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كلّ وقت . ومحبوبه حفيّ به ، معتزّ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له . أفَليسَ في هذا أعظم غذاء لهذا المحبّ ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه ، ولا أعظم ، ولا أجمل ، ولا أكمل ، ولا أعظم إحساناً ، إذا امتلأ قلب المحبّ بحبّه . وملك حبّه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكّن حبّه منه أعظم تمكّن ؟ وهذا حاله مع حبيبه . أفليس هذا المحبّ عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً ؟ ولهذا قال : " إني أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني " ، ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم - كما قيل - لما كان صائماً . فضلاً عن كونه مواصلاً . كذا في زاد المعاد . وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة . وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم ، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادةً . والله أعلم . قال ابن كثير : ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاديّ من باب الشفقة . كما جاء في حديث عائشة : رحمةً لهم . فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه ، لأنهم كانوا يجدون قوةً عليه . { وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره . فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه ، وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء ، وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد : إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية . قال ابن أبي حاتم : روي عن ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ابن أنس ، ومقاتل قالوا : لا يقربها وهو معتكف . قال ابن كثير : وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أنّ المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده . ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بدّ له منها ؛ فلا يحلّ له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك - من قضاء الغائط أو الأكل - وليس له أن يقبّل امرأته ، ولا أن يضمّها إليه ، ولا أن يشتغل بشيء سوى اعتكافه . ثم قال ابن كثير : المراد بالمباشرة ، الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقةٍ ونحو ذلك . فأمّا معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به . فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه فأرجله وأنا حائض . وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . وفي الصحيحين أيضاً : أنّ صفية أم المؤمنين كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ، فتتحدث عنده ساعةً ثم ترجع إلى منزلها . فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى يبلغها دارها ، وذلك في الليل . تنبيهان الأول : قال الراغب : ظاهر ذكر المساجد يقتضي جواز الاعتكاف في كلّ مسجدٍ . الثاني : في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشادٌ وتنبيهٌ على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام . كما ثبت في السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عزّ وجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده . ثم إنّ حقيقة الاعتكاف هو المكث في بيت الله تقرباً إليه . وهو من الشرائع القديمة . وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف : لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً وعلى جمعيته على الله . ولمُّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى . فإنّ شعث القلب لا يلمّه إلا الإقبال على الله تعالى . وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ، مما يزيده شعثاً ، ويشتّته في كلّ وادٍ . ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه ، أو يعوقه ويوقفه - اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله تعالى . وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأُخراه . ولا يضرّه ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة . وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه ، عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه . بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محلّ هموم القلب وخطراته . فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهمّ به كلّه ، والخطرات كلّها بذكره . والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه . فيكون أُنسه بالله بدلاً عن أُنسه بالخلق . فيعدّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه . فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان . ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط . بل قد قالت عائشة : لا اعتكاف إلا بصوم . ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم . ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم . فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف ، أنّ الصوم شرط في الاعتكاف . وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية . وأمّا الكلام ، فإنّه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة . وأمّا فضول المنام : فإنّه شرع لهم من قيام الليل ما هو أفضل من السهر وأحمد عاقبة . وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق عن مصلحة العبد . ومدارُ أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة . وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبويّ المحمديّ ، ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين . ثم قال : كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزّ وجل . وتركه مرةً فقضاه في شوال . واعتكف مرةً - في العشر الأول ، ثمّ الأوسط ، ثمّ العشر الأخير - يلتمس ليلة القدر ، ثمّ تبيّن له أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عزّ وجل . وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربّه عز وجل . وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله . فأمر به مرّةً فضرب ، فأمر أزواجهُ بأخبيتهنّ فضربت . فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية . فأمر بخبائه فقوّض . وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال . وكان يعتكف كلَّ سنة عشرة أيام . فلمّا كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً . وكان يعارضه جبريل بالقرآن كلّ سنة مرةً . فلمّا كان ذلك العام عارضه به مرّتين . ولم يباشر امرأةً من نسائه - وهو معتكف - لا بقبلةٍ ولا بغيرها . وكان - إذا اعتكف - طرح له فراشه ، ووضع له سريره في معتكفه . وكان إذا خرج لحاجته مرّ بالمريض ، وهو على طريقه ، فلا يعرج له إلا سأل عنه ، واعتكف مرّةً في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيراً . كل ّهذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه . { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } يعني : تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف من تحريم الأكل والشرب والجماع ، وشبّه تلك الأحكام بالحدود الحاجزة بين الأشياء لكونها حاجزةً بين الحق والباطل ، فإن من عمل بها كان في حيز الحق ، ومن خالفها وقع في الباطل ، ونهى عن قربها كيلا يداني الباطل ، فضلاً من أن يتخطى إليه ، فالنهي عن مكان القرب من الحدود التي هي الأحكام ، كناية عن النهي عن قرب الباطل . لكون الأول لازماً للثاني . وبذلك يحصل الجمع بين هذه الآية وآية : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ويندفع التنافي . وقوله : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } أبلغ من { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } لأنه نهيٌ عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح . وذلك نهيٌ عن الوقوع في الباطل بطريق التصريح { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ } أي : كما بيّن ما أمركم به ونهاكم عنه - في هذا الموضع - يبين للناس ما شرعه لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } المحارم فيعرفون كيف يطيعون ويهتدون . كما قال تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 9 ] . قال الرازي : والغرض من قوله تعالى : { كَذٰلِكَ … } إلخ تعظيم حال البيان ، وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان . وفيه أيضاً تقرير للأحكام السابقة ، والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل التقوى .