Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 189-189)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله ! لِمَ خلقت الأهلّة ؟ فنزلت . وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غَنْم . قالا : يا رسول الله ! ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان ، لا يكون على حالٍ واحد ؟ فنزلت . ومعنى كونها { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } معالم لهم في حَلِّ دَيْنِهِم ، ولصومهم ، ولفطرهم ، وأوقات حجهم ، وأجائرهم ، وأوقات الحيض وعِدَدِ نسائهم ، والشروط التي إلى أجل . فكلّ هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادةً ونقصاً . ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالةٍ واحدة . قال بعض المفسّرين : ثمرة الآية أنّ الأحكام الشرعية - كالزكاة والعِدَدِ للنساء والحمل - تتعلق بشهور الأهلّة لا بشهور الفرس ، أمّا ما تعلّق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم ، بالأهلة أو بشهور الفرس ، فهذا حكم ، وذاك حكم آخر . وقد ذكر تعالى هذا المعنى في آيات ، كقوله سبحانه : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ يونس : 5 ] . وقوله : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ الإسراء : 12 ] . أي : من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب ، رحمةً منه تعالى وفضلاً . وإفراد { ٱلْحَجِّ } بالذكر هنا تنويهاً بشأنه . وقال القفال : نكتة إفراده بيان أنّ الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه ، وأنَّه لا يجوز نقل الحجّ من تلك الأشهر إلى أشهر ، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء . والله أعلم . والجمهور على فتح حاء { ٱلْحَجِّ } ؛ والحسن على كسرها في جميع القرآن . قال سيبويه : هما مصدران كالردّ والذكر ؛ وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم . و { ٱلأَهِلَّةِ } جمع هلال . وجمعه باختلاف زمانه . وهو : غرّة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع ، ثمّ يسمّى قمراً ، وليلة البدر لأربع عشرة . قال أبو العباس : سمي الهلال هلالاً : لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ، وسمي بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع كأنّه يجعلها المغيب . ويقال : سمي بدراً لتمامه وامتلائه . وكلّ شيء تم فهو بدر . تنبيه الجواب على الرواية في سبب نزول الآية من الأسلوب الحكيم . وهو تلقّي السائل بغير ما يتطلب - بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأوْلى بحاله أو المهم له . فلمّا سألوا عن السبب الفاعليّ للتشكلات النورية في الهلال ، أجيبوا بما ترى من السبب الغائيّ . تنبيهاً على أنّ السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم ، لأنّ درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبنيّ على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها . فلو أجيبوا : بأنّ اختلاف تشكلات الهلال . بقدر محاذاته للشمس ، فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف . ثم تزداد المحاذاة والاستنارة حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ . ثمّ تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية - لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ، ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك . وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر ، زاد ما زاد " أخرجه الإمام أحمد . وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال عليّ رضي الله عنه : من طلب علم النجوم تكهّن . وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علم لا ينفع ، وجهل لا يضر " والمقصود أنّ الجواب ، على الرواية الثانية ، من الأسلوب الحكيم . إشعاراً بأنّ الأوْلى السؤال عن الحكمة فيه . قال السكاكيّ في المفتاح : ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفنّنة ، إذ ما من مقتضى كلام ظاهريّ إلا ولهذا النوع مدخل فيه بجهةٍ من جهات البلاغة . ترشد إليه تارةَ بالتصريح ، وتارةً بالفحوى . ولكلًّ من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها . وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب كما قال : @ أنت تشتكي عندي مزاولة القِرى وقد رأت الضِيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هُمُ الضيف جِدِّي في قراهم وعجّلي ! @@ أو السائل بغير ما يتطلب كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ … } الآية قالوا في السؤال : ما بال الهلال يبدوا دقيقاً … ! إلخ ؟ فأجيبوا بما ترى . وكما قال : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [ البقرة : 215 ] سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان المصرف . ينزل سؤال السائل منزلة سؤالٍ غير سؤالٍ غير سؤاله ، لتوخّي التنبيه له بِألْطَفِ وجهٍ على تعديه عن موضع سؤالٍ هو أليقُ بحاله أن يسأل عنه ، أو أهمّ له إذا تأمل ، وأنّ هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ؛ وهل ألانَ شكيمة الحجاج لذلك الخارجيّ ، وسلّ سخيمته ، حتى آثر أن يحسن ، على أن يسيء ؛ غير أنْ سَحَرَهُ بهذا الأسلوب ؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله : " لأحملنك على الأدهم " فقال متغابياً : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ! مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلاً أن يريه بألطف وجه : أنّ أمرأً مثله - في مسند الإمرة المطاعة - خليقٌ بأن يُصْفِدَ لا أن يَصْفِد ، وأنّ يعد لا أن يُوعِد . { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . قال الراغب في تفسيره : الباب معروف . وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها وقيل في العلم : باب كذا . وقد كان سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه . فأنزل الله هذه الآية تنبيهاً على أظهر فائدته للحسّ ، وأبينها له . ثمّ قال : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهروها أي : بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه . وذلك أنّه يقال : أتى فلان البيت من بابه - إذا طلب الشيء من وجهه . وقال الشاعر : @ أتيت المروءة من بابها وأتى البيت من ظهره @@ إذا طلب الأمر من غير وجهه وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عمّا هو ليس من العلم المختصّ بالنبوّة . وإنّ ذلك عدولٌ عن المنهج . وذلك أن العلوم ضربان : دنيويّ ، يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع . ومعرفة حركات النجوم ، ومعرفة المعادن ، والنبات ، وطبائع الحيوانات . وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان نبيّه عليه السلام . وشريعة : وهو البرّ : ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته . وهو أحكام التقوى … ! فلمّا جاؤوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عمّا أمكنهم معرفته من غير جهته ، أجابهم . ثمّ بيّن لهم أنّه ليس البر ترك المنهج في السؤال من النبيّ ما ليس مختصاً بعلم نبوّته . ولكن البرّ هو مجرّد التقوى ، وذلك يكون بالعلم والعمل المختصّ بالدين . وقال أبو مسلم الأصفهانيّ : المراد من هذه الآية ، ما كانوا يعملونه من النسيء ، فإنهم كانوا يخرجون الحجّ عن وقته الذي عينه الله له . فيحرمون الحلال ويحللون الحرام . فذِكْرُ إتيان البيوت من ظهورها مَثَلٌ لمخالفة الواجب في الحجّ وشهوره . وأمّا ما رواه البخاريّ وغيره عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء رضي الله عنه يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها . فجاء رجلٌ من الأنصار فدخل من قبل بابه . فكأنه عُيّر بذلك ، فنزلت : { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ } الآية . فالمراد من نزولها في ذلك ، صدقها عليه حسبما رآه . لا أنّ ذلك كان سبب نزولها . كما بينّا مراراً معنى قولهم : نزلت الآية في كذا . وقد أشار لهذا الراغبُ : بعد حكايته هذه الرواية وما قاله أبو مسلم - بقوله : وكلّ ذلك لا يُدفع أن تتناوله الآية . لكنّ الأليق أن تؤول الآية بما تقدم ذكره من أنّ معنى { وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } أي : تحروا في كلِّ عملٍ إتيان الشيء من وجهه ، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه صعب تناوله . ثمّ قال : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } حثّاً لنا أنْ نجعل تقوى الله شعارَنا في كلّ ما نتحراه . وبيّن أنّ ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح .