Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 195-195)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أمرٌ بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات . ومن أهمها : صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم . وقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } أي : ما يؤدي إلى الهلاك أي : لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك ، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته ، جهلاً به . قال الراغب : وللآية تأويلان بنظرين : أحدهما : إنه نهى عن الإسراف في الإنفاق ، وعن التهوّر في الإقدام . والثاني : إنه نهى عن البخل بالمال ، وعن القعود عن الجهاد . وكلا المعنيين يراد بها . فالإنسان ، كما أنه منهيّ عن الإسراف في الإنفاق ، والتهور في الإقدام ، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد ، ولهذا قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] الآية ، وقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] الآية . ولما كان أمر الإنفاق أخصّ بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال ، لتجرد المهاجرين عنها ، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاريّ ، رواه أبو داود ، والترمذيّ ، والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه وغيرهم … ولفظ الترمذي : عن أسلم أبي عمران قال : كنا بمدينة الروم . فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر . وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد . فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل عليهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله ! يلقي بيديه إلى التهلكة … ! فقام أبو أيوب الأنصاريّ فقال : يا أيها الناس ! إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل . وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . لما أعزّ الله الإسلام ، وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سرّاً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنّ أموالنا قد ضاعت ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ! فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يردّ علينا ما قلنا { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة الإقامةَ على الأموال ، وإصلاحها ، وتركنا الغزو . فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم . هذا حديث حسن غريب صحيح . أقول : إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إمّا لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب ، وإمّا لردّ زعم أنها نزلت في القتال . أي : في حمل الواحد على جماعة العدوّ كما تأولوها . وهذا هو الظاهر . وإلا فاللفظ يقتضي العموم ، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك . ولا شبهة أنّ التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام . وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده : أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق . فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدوّ وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص ، فأرسل إليه عمرو فردّه . وقال عَمْرو : قال الله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } ! وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه . تنبيه قال الحاكم : تدلّ الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خاف على النفس . وتدلّ على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف ؛ لأنّ كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة . وتدلّ على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين . كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية . وكما فعله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بصفين . وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية . وتدل أيضاً على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا خشى التهلكة . ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأشارا بترك ذلك . وهو لا يعزم إلا على ما يجوز . لطيفة الإلقاء لغةً : طرح الشيء ، عُدِّي بإلى لتضمن معنى الانتهاء ، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي ، والمراد بالأيدي : الأنفس ، فذِكْرُ الجزء وإرادةُ الكلّ لمزيد اختصاص لها باليد . بناء على أنّ أكثر ظهور أفعال النفس بها . والتهلكة والهلاك والهلك واحد . فهي مصدر . أي : لا توقعوا أنفسكم في الهلاك . والتهلكة بضمّ اللام . قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة - بضمّ العين - إلا هذا . وقال اليزيدي : هو من نوادر المصادر . ولا يجري على القياس ! قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلِكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما . على أنها مصدر من هلك . فأبدلت من الكسرة ضمة . كما جاء الجُوار في الجِوار هذا ما ذكروه . قال الفخر الرازي : - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق : وإني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجّة قوية . فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى ، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى بأن يدلّ على صحّةّ هذه اللفظة واستقامتها . { وَأَحْسِنُوۤاْ } أي : تحرّوا فعل الإحسان ، أي : الإتيان بكلّ ما هو حسن ، ومن أجلِّه الإنفاق ، وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } ، قال الراغب : نبّه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم .