Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-26)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } أي : يذكر مثلاً ما . يقال : ضرب مثلاً ، ذكره ، فيتعدى لمفعول واحد . أو صير ، فلمفعولين . قال أبو إسحاق : في قوله تعالى : { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً } [ الكهف : 32 ، يس : 13 ] أي : اذكر لهم . وعبارة الجوهري : ضرب الله مثلاً أي وصف وبين . وفي شرح نظم الفصيح : ضرب المثل : إيراده ليمتثل به ، ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب . يقال : ضرب الشيء مثلاً ، وضرب به ؛ وتمثله ، وتمثل به . ثم قال : وهذا معنى قول بعضهم : ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به . و " ما " هذه اسمية إبهامية ، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً ، وزادته شياعاً وعموماً - كقولك : أعطني كتاباً ما ، تريد أي كتاب كان - كأنه قيل : مثلا ما من الأمثال أي مثل كان . فهي صفة لما قبلها . أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها - كما في قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] - كأنه قيل : لا يستحيي أن يضرب مثلا حقا ، أو البتة . و { بَعُوضَةً } بدل من { مَثَلاً } . أو هما مفعولا { يَضْرِبَ } لتضمنه معنى الجعل والتصيير . ومعنى الآية : إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها . أي : لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً - ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة - كما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها . كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] . وقال : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] . وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز ، فما استنكره السفهاء وأهل العناد والمراء ، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء ومضروباً بها المثل - ليس بموضع للاستنكار والاستغراب . من قِبَلِ أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهدَ . فإن كان المتمثل له عظيماً ، كان المتمثل به مثله . وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً ، إلا أمراً تستدعيه حال المتمثل له وتستجره إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية . ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً ، جلياً أبلج ، كيف تمثل له بالضياء والنور ؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة ؟ أفاده الزمخشري . { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى - أي : فأما المؤمنون { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } - كسائر ما ورد منه تعالى - والحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه ، ومحتذي على مثال ما يستدعيه - كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى - وجعلت أقل من الذباب ، وأخس قدراً ، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلاً ، لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل . . ! فالمؤمنون - الذين عادتهم الإنصافُ والعمل على العدل والتسوية ، والنظرُ في الأمور بناظر العقل - إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، والصوابُ الذي لا يرتع الخطأ حوله { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ممن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم - فلا يتفطنون ، ولا يلقون أذهانهم . أو عرفوا أنه الحق ، إلا أن حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يخيلهم أن يُنصِفوا : { فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } أي : فإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقَضَواْ عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها - مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة . ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمى لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة - إذا لم يجد سوى ذلك معولاً . { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } جوابٌ عن تلك المقالة الباطلة ، وردٌّ لها ببيان أنه مشتملٌ على حكمة جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدّين للهداية ، وإضلال المنهمكين في الغواية . وقدّم الإضلال على الهداية - مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوؤهم ، ويفت في أعضادهم ، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر { وَمَا يُضِلُّ بِهِ } أي : بالمثل أو بضرب به { إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } تكملة للجواب والرد ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له .