Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 274-274)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار . قال الحراليّ : فأفضلهم المنفق ليلاً سراً . وأنزلهم المنفق نهاراً علانية . فهم بذلك أربع أصناف . لطائف لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة ، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيباً وترهيباً ، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله . قال الإمام الغزاليّ عليه الرحمة في الإحياء ما نصه : في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معاني : الأول : أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد ، وشهادة بإفراد المعبود . وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد . فإن المحبة لا تقبل الشركة . والتوحيد باللسان قليل الجدوى . وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب . والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا . وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت . مع أن فيه لقاء المحبوب . فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب ، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم . ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . وذلك بالجهاد . وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل . والمسامحة بالمال أهون . ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم . فلم يدخروا ديناراً ولا درهماً . وقسم درجتهم دون من قبلهم ، وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات . فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم . وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها . وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة . وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة ، كالنخعي والشعبيّ وعطاء ومجاهد . قال الشعبيّ بعد أن قيل له : هل في المال حق سوى الزكاة ؟ قال : نعم . أما سمعت قوله عز وجل : { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ … } [ البقرة : 177 ] الآية ، واستدلوا بقوله عز وجل : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] . وقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } [ المنافقون : 10 ] . وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم . ومعناه أنه يجب على الموسر ، مهما وجد محتاجاً ، أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة . وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه . وهي أقل الرتب . وقد اقتصر جميع العوام عليه . لبخلهم بالمال وميلهم إليه ، وضعف حبهم للآخرة . قال الله تعالى : { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 37 ] . يحفكم أي : يستقص عليكم . فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة . وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله . فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عبادَه ببذل الأموال . المعنى الثاني : التطهير من صفة البخل ، فإنه من المهلكات . قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه " وقال تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ، التغابن : 16 ] . وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال . فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتياداً . والزكاة ، بهذا المعنى ، طهرة . أي : تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك . وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى . المعنى الثالث : شكر النعمة . فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله . فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن . والمالية شكر لنعمة المال . وما أخسّ من ينظر إلى الفقير ، وقد ضيِّق عليه الرزق ، وأحوج إليه ، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه . فصل وللغزاليّ رحمه الله أيضاً بحث في المنّ والأذى المتقدم ذكرهما . يجدر ذكره هنا ، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة . قال رحمه الله : الوظيفة الخامسة يعني من وظائف مريد طريق الآخرة بصدقته ألا يفسد صدقته بالمنّ والأذى . قال الله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [ البقرة : 264 ] واختلفوا في حقيقة المنّ والأذى . فقيل : المنّ أن يذكرها . والأذى أن يُظهرها . وقال وسفيان : من منّ فسدت صدقته . فقيل له : كيف المنّ ؟ فقال : أن يذكره ويتحدث به . وقيل : المنّ أن يستخدمه بالعطاء . والأذى أن يعيره بالفقر . وقيل : المنّ أن يتكبر عليه لأجل عطائه . والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صدقة منان " وعندي أن المنّ له أصل ومغرس . وهو من أحوال القلب وصفاته . ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح . فأصله أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه . وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه ، الذي هو طهرته ونجاته من النار . وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهناً به . فحقه أن يتقلد منة الفقير إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل " فليتحقق أنه مسلِّم إلى الله عز وجل حقه . والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل . ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدى الدين كونَ القابض تحت منته سفهاً وجهلاً . فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه . أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه . فهو ساع في حق نفسه . فَلِمَ يمن به على غيره ؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل ، أو أحدها لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه . إما ببذل ماله إظهاراً لحب الله تعالى أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل ، أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد . وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسناً إليه . ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره ، ما ذكر في معنى المنّ ، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء ، والخدمة والتوقير والتعظيم ، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس ، والمتابعة في الأمور . فهذه كلها ثمرات المنّة . ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه . وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف وباطنه وهو منبعه أمران : أحدهما : كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه ، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة . والثاني : رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخسّ منه وكلاهما منشؤه الجهل . أما كراهيته تسليم المال فهو حمق ، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوى ألفاً فهو شديد الحمق ، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل ، والثواب في الدار الآخرة . وذلك أشرف مما بذله أو ببذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل ، أو شكره لطلب المزيد . وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها . وأما الثاني : فهو أيضاً جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام . وقد أطال الغزاليّ رحمه الله من هذا النفس العالي . فليراجع . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة والصدقة قال شمس الدين ابن القيّم الدمشقيّ في زاد المعاد : هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هَدْي في وقتها ، وقدرها ونصابها ، ومن تجب عليه ، ومصرفها . ويراعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه . وقيد النعمة به على الأغنياء . فما أزال النعمة بالمال على من أدى زكاته . بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات ، ويجعلها سوراً عليه وحصناً له وحارساً له . ثم قال في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع : كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده . وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ولا يستقله . ولا يسأله أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه قليلا أو كثيراً . وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر . وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه . وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه . وكان أجود الناس بالخير ، يمينه كالريح المرسلة . وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بلباسه . وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته . فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء شيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً كما فعل بجابر . وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه ، وأفضل وأكبر ، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه . ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفاً وتنوعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن . وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها وبحاله وقوله . فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء . وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى . وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق ، صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلبا . فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدور وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها . وشرح صدره حسّاً وإخراج حظ الشيطان منه . ولما ذكر تعالى الأبرار المؤدّين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات ، شرع في ذكر أكَلَةِ الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات . فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم ، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ … } .